على مدار سنوات كثيرة كان الوافدون الذين يعملون في دول الخليج يمثلون صمام أمان للدول التي يعيشيون بها، والتي كانت بدورها تمثل صمام أمان لهم، فكلا الطرفين كان بحاجة ماسة لما يقدمه له الآخر.
كان الوافد بحاجة للعمل، وكان البلد بحاجة لعامل، الأمر الذي تطلب من كل طرف أن يتجاوز ولو مؤقتاً عن المخاطر المحيطة بهذه العلاقة القائمة على تبادل المصلحة.
وقد شهدت السنوات القليلة الماضية ارتفاع أصوات كثيرة وكبيرة في عدد من بلدان للخليج للمطالبة بإحلال العمالة الوطنية محل الوافدة؛ ليس فقط بسبب انتشار البطالة بين صفوف أبناء البلد، وإنما أيضاً بعدما أصبح الوافدون يمثلون هاجساً ديموغرافياً، خاصة للبلدان قليلة السكان.
المخاوف الكبيرة التي كانت تحدق بمستقبل النفط دفعت هذه الدول لمحاولة تشغيل مواطنيها وتقليص عدد الوافدين، وقد تحركت في هذا المضمار لكن ليس بخُطا واسعة، حتى جاءت جائحة "كورونا" لتضع الطرفين (الحكومات والوافدين) على مفترق الطرق.
ويوجد في منطقة الخليج نحو 35 مليون أجنبي يشكلون العمود الفقري لاقتصاد هذه المنطقة، غير أن إعادتهم إلى بلدانهم أصبحت اليوم تمثل حماية لوظائف ورواتب مواطني هذه الدول.
وتستقطب السعودية وحدها أكثر من 11.1 مليون عامل وافد، معظمهم من الدول الآسيوية، وتصل نسبة العمالة الوافدة فيها إلى 76.7%، بينما تصل في الإمارات إلى 90%. وفي الكويت بلغت النسبة 69.3%، في حين تصل إلى نحو 80.9% في عُمان، وإلى 94.4% في قطر، وتقترب من 73.5% في البحرين، وفق معطيات نشرتها صحيفة "أخبار الخليج" البحرينية.
وارتفع حجم العمالة الهندية في دول الخليج في غضون أربعة عقود من نحو 250 ألف عامل في عام 1975 إلى قرابة 8 ملايين عامل في الوقت الحاضر، مستفيدين من فرص العمل في السوق الخليجية.
ويُعَدُّ عمل الجالية الفلبينية في دول مجلس التعاون الخليجي لافتاً؛ إذ تستقطب السعودية والإمارات معاً نحو 40% من العمالة الفلبينية العاملة في خارج الفلبين. وفيما يخص العمالة الوافدة من الدول العربية تستقطب السعودية على وجه الخصوص أعداداً ضخمة من العمالة من مصر واليمن والسودان.
على الرغم من ذلك يشكِّل عامل البطالة أو معضلة إيجاد فرص عمل مناسبة للمواطنين في بعض دول مجلس التعاون تحدياً لبقاء العمالة الوافدة بالمستويات الحالية.
تباطؤ مقلق
وفي العام 2015، أكدت دارسة أعدتها وحدة المعلومات في مؤسسة "الإيكونوميست" بالتعاون مع مؤسسة قطر ضمن مشروع "الخليج في 2020" تباطؤ النمو السكاني من 3.4% في عام 2010 إلى 2.4% في عام 2020.
وحسب الدراسة فقد بلغ مجموع عدد السكان في الدول الخليجية الست 41.5 مليون نسمة في عام 2010، مع توقع بتخطي العدد حاجز 53 مليوناً في عام 2020، حيث تعود الزيادة الكبيرة في عدد السكان لأسباب عديدة؛ منها الوجود النوعي للوافدين في المنظومة الخليجية.
كما يترك الحضور المميز للعمالة الهندية على وجه الخصوص بصماته على التركيبة الديموغرافية لدول الخليج، وبشكلٍ عامٍّ فإن التوزيع النسبي للجنسين بين المواطنين في دول الخليج يميل إلى التناصف، لكن تصبح الغلبة للذكور من مجموع السكان في نهاية الأمر؛ وذلك بالنظر إلى أن السواد الأعظم من العمال المهاجرين -ومن ضمنهم الهنود- هم من الذكور.
وتعتبر العمالة الوافدة مكوِّناً أساسياً في سوق العمل والحياة التجارية في دول مجلس التعاون الخليجي؛ وذلك عبر الإسهام في المسيرة التنموية من خلال المشاركة في أعمال البناء وتكوين مؤسسات تجارية أخرى، والمساهمة في ديمومة العديد من القطاعات الاقتصادية مثل قطاع النقل.
وتتميز المنظومة الخليجية باحتضانها أعداداً كبيرة من العمالة الوافدة، حيث تشكِّل أكثرية القوى العاملة في جميع دول المجلس الست، فضلاً عن كونها غالبية السكان في أربع دول أعضاء هي: الإمارات والبحرين والكويت وقطر.
ومع الظروف التي فرضتها الجائحة وما ترتب عليها من قيود أوقفت مئات آلاف العاملين عن العمل وسجنتهم في بيوتهم، سجّل مئات الآلاف من الوافدين، وأكثرهم آسيويون، طلبات لإعادتهم إلى دولهم حسبما تفيد الأرقام لدى سفارات بلدانهم في دول الخليج.
وبدأ كل من باكستان والهند ترحيل مواطنيها من منطقة الخليج، كما شرعت مصر في تسيير رحلات لإعادة مواطنيها من الكويت.
ويصطدم استمرار الوجود غير العادي للعمالة الوافدة في دول مجلس التعاون بظاهرة البطالة في أوساط العمالة المحلية، حيث تعتبر البطالة تحدياً في عُمان، والبحرين، والسعودية. كما أن المتغيرات التي صنعها انتشار "كورونا" وانهيار أسعار النفط فرضا على الطرفين التفكير في مستقبل محاط بالشكوك.
ترتيب أوراق
لقد استغلت دول الخليج أزمة "كورونا" لإعادة ترتيب أوارقها وتحديد أولوياتها، فكان أول هذه الأوراق ومقدمة تلك الأولويات تقليص العمالة الوافدة.
وفي 6 مايو 2020، قال الإعلامي السعودي خالد العقيلي للشركات في القطاع الخاص إن من واجبها الوطني تسريح موظفيها الأجانب لا السعوديين، محذراً من أن هيمنة الوافدين على قوة العمل بالمملكة يشكل "خطرا حقيقياً".
ولا يتوقف حديث تقليص العمالة الوافدة على بلد بعينه، ففي تصريح سابق لـ"الخليج أونلاين" قال النائب في مجلس الأمة الكويتي، حمود الخضير، إن أزمة "كورونا" فرضت على الدولة مواجهة ومعالجة كثير من الأمور التي باتت مستحقة بعد أن ننتهي من هذه الأزمة الصحية.
وعلى رأس ذلك، أضاف الخضير، معالجة وضبط التركيبة السكانية، ومحاربة تجار الإقامات الذين كانوا سبباً في إغراق البلاد بالعمالة الهامشية التي كانت تشكّل النسبة الكبرى من الإصابات بالفيروس من إجمالي عدد المصابين.
نائب كويتي اكد لموقع "الخليج أونلاين": توجه لتعديل قوانين تُقنن دخول العمالة الوافدة إلى البلاد
وبحسب ما نشرته وكالة "رويترز" للأنباء، الخميس (7 مايو)، فقد توقعت منظمة العمل الدولية أن يكون رحيل الوافدين أكبر مما أعقب الأزمة المالية في 2008 و2009، وتراجع أسعار النفط في 2014 و2015، وهو أساس صادرات المنطقة، دون أن تحدد أرقاماً.
وتفيد إحصاءات رسمية بأن عدد الوافدين في سلطنة عمان وحدها تراجع بأكثر من 340 ألفاً في 2010 بعد الأزمة المالية في 2008 و2009. وأظهرت بيانات البنك الدولي أن النمو الاقتصادي للسلطنة تباطأ في ذلك العام بواقع 1.3 نقطة مئوية.
أما هذه المرة فلا يزال عدد كبير من العاملين الأجانب عالقين بينما تحاول دول الخليج ترتيب سبل لإعادتهم إلى بلدانهم.
ونقلت "رويترز" عن ريشارد خولوفينسكي، وهو خبير الهجرة إلى الدول العربية لدى منظمة العمل الدولية، أن أعداد المغادرين من الإمارات والكويت وقطر "قد تكون كبيرة جداً".
وقال صندوق النقد الدولي إن الشرق الأوسط يتجه إلى تراجع اقتصادي هذا العام أكبر بكثير مما شهدته المنطقة في 2008 وفي 2014 و2015؛ إذ تواجه دول المنطقة ضربة مزدوجة من إجراءات العزل العام المفروضة لمكافحة فيروس كورونا والتراجع القياسي في أسعار النفط.
وأعلنت عدة شركات طيران خليجية وشركة "كريم" لتطبيقات طلب سيارات الأجرة تسريح مئات العاملين، كما أعلنت دبي تسريح 179 عاملاً من "إكسبو 2020 دبي"، بعد تأجيل المعرض عاماً كاملاً.
ويقول محللون إن رحيل الوافدين قد يقلص إيرادات الحكومات من الرسوم وضريبة القيمة المضافة، ويبطئ جهود الإصلاح بما يشمل خفض الإنفاق العام على الرواتب والدعم.
لكن المسألة تبدو محسومة لدى كثيرين ممن يرون في تداعيات "كورونا" فرصة لن تتكرر للحفاظ على العمالة الوطنية من جهة، وتوطين مزيد من الوظائف على حساب الوافدين لأسباب اقتصادية وسياسية وسكَّانية، من جهة أخرى.
خطوات جدِّية
وقبل أيام، طالبت السلطات الكويتية الحكومات في مصر والهند بوضع آلية لإجلاء المخالفين من رعاياهما؛ نظراً للعدد الكبير للجاليتين في البلاد وكثرة عدد المصابين منهم بـ"كورونا".
وذكرت صحف محلية أن عدداً من النواب حذروا من أنهم سيمنعون تمرير أي مسودة قانون تسمح لشركات القطاع الخاص بخفض أجور الكويتيين.
ومنحت الكويت فرصة حتى نهاية أبريل الماضي لاستقبال مخالفي الإقامة الراغبين في الاستفادة من مهلة السماح، التي تتيح لهم مغادرة البلاد من دون دفع الغرامات المترتبة عليهم، مع أحقيتهم في العودة.
وحاولت الكويت تقليص عدد الوافدين من 3.3 ملايين، إلى مليون ونصف المليون فقط، بما يعالج اختلالات التركيبة السكانية في البلاد (30% من المواطنين و70% من الوافدين).
وفي السعودية سمح قرار وزاري، صدر في 3 مايو 2020، بتنظيم عقد العمل في الفترة الحالية للظرف القاهر الخاص بفيروس كورونا، وتخفيض الرواتب في القطاع الخاص إلى 40% مع إمكانية إنهاء العقود.
ووفق وثيقة نشرتها صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية، فقد وافقت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية على المذكرة التفسيرية لنظام العمل السعودي المتضمنة السماح لصاحب العمل بتخفيض رواتب الموظفين 40% من كامل الأجر الفعلي لمدة 6 أشهر، بما يتناسب مع ساعات العمل، وإتاحة إنهاء عقود الموظفين بعد 6 أشهر من الظرف القاهر.
ووفق الوكالة المعنية بالهجرة في الأمم المتحدة فإن السعودية أقدمت على ترحيل 2870 مهاجراً إثيوبياً إلى أديس أبابا منذ بدء تفشي "كورونا".
ويفد إلى المملكة سنوياً عشرات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين من أفريقيا وآسيا؛ على أمل الحصول على فرصة عمل وحياة أفضل، وهو ما تراه السعودية عبئاً على مرافقها ونظامها الصحي حال تفشي الفيروس بينهم.
وتمضي المملكة قدماً في سياستها الرامية إلى ترحيل من نحو نصف مليون إثيوبي، وفق تقديرات المنظمة الدولية للهجرة.
وأمرت سلطنة عمان، في أبريل الماضي، الشركات الحكومية بإحلال العمانيين محل الموظفين الأجانب، وقد أعلن المركز الوطني للإحصاء، في 3 مايو الجاري، تراجع عدد الوافدين بالسلطنة خلال الربع الأول من العام الجاري.
وشكّل الوافدون 41.7% من إجمالي سكان السلطنة بنهاية الربع الأول من العام الجاري، مقارنة بـ42.5% خلال الفترة نفسها من 2019.
وفي الإمارات، أعلنت الحكومة أنها ستراجع سياستها بشأن العمالة مع الدول التي ترفض قبول عودة مواطنيها، ومن ضمن ذلك من فقدوا وظائفهم أو اضطروا إلى أخذ إجازات نتيجة تفشي "كورونا".
وتدرس أبوظبي إيقاف العمل بمذكرات التفاهم المبرمة بين وزارة الموارد البشرية والتوطين والجهات المعنية في الدول غير المتجاوبة، وتخطط الحكومة لوضع قيود مستقبلية صارمة على استقدام العمالة من الدول الرافضة لإجلاء رعاياها، وكذلك تطبيق نظام الحصص في عمليات الاستقدام.
وبلغ عدد الباكستانيين الذين سجلوا رغباتهم بالعوة إلى الديار، خلال أبريل الماضي، أكثر من 20 ألف باكستاني، بعد أن انتهت إقامتهم أو فقدوا وظائفهم، حسب متحدث باسم القنصلية الباكستانية.
ومطلع مايو، قالت سفارة جمهورية الهند لدى الإمارات إن 203 آلاف و660 مواطناً هندياً سجلوا إلكترونياً تمهيداً لعودتهم قريباً إلى بلادهم.
وفي المنامة، تدرس الحكومة البحرينية مقترحاً نيابياً يقضي بمنح العمالة السائبة مهلة لتصحيح أوضاعهم غير القانونية ومغادرة البلاد؛ لمنع انتشار فيروس "كورونا".
وقال الرئيس التنفيذي لهيئة تنظيم سوق العمل البحرينية، أسامة العبسي، في 29 أبريل، إن الهيئة أطلقت فترة سماح لتصحيح أوضاع العمالة الوافدة؛ تمتد من 1 أبريل لغاية 31 ديسمبر 2020، يتم فيها التغاضي عن أي مخالفات سابقة تتعلق بالعمل والإقامة في مملكة البحرين".
وتعتمد قطر على نحو مليوني عامل أجنبي في الجزء الأكبر من قوتها العاملة، معظمهم من دول آسيوية مثل نيبال والهند والفلبين، وبعضهم من الدول العربية مثل مصر.
ومؤخراً، ألغت شروطاً على تأشيرات الخروج لقطاع إضافي من القوة العاملة الأجنبية لديها يشمل العاملين في صناعة النفط والغاز. وأوضح بيان للمتحدثة باسم وزارة الخارجية، لولوة الخاطر، أن قرار رفع شروط تأشيرات الخروج ينطبق على موظفي الوزارات والهيئات والمؤسسات وغيرها من الوكالات الحكومية وقطاع النفط والغاز وفروعه والسفن العاملة في المياه القطرية والزراعة والري.
وتقدر لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الإسكوا" حجم الضرر المترتب على الفيروس بأكثر من 1.7 مليون وظيفة مفقودة في العالم العربي.
ومع امتداد أزمة "كورونا" زمنياً يمكن أن تتفاقم أوضاع العمالة الوافدة، خاصة الهامشية منها، لا سيما مع وجود رغبة سياسية لدى حكومات الخليج بالتخلص من العمالة الزائدة وترحيل جنسيات بعينها.
وتوفر تلك الإجراءات فرصة لدول الخليج للحد من ارتفاع معدلات البطالة لديها، وتوفير فرص عمل لمواطنيها مستقبلاً، ومعالجة الاختلالات في تركيبتها السكانية، ما يعني أن "كورونا" سيكون غطاءً لجني مكاسب أخرى داخلية.