بينما دخل معظم ساكني الأرض في عزلٍ صحي خلف جدران منازلهم هرباً من وباء الفيروس التاجي "كورونا المستجد"، نذرت فئة من العاملين في القطاع الصحي ومراكز الأبحاث حياتها للتصدي والحدّ من خطورة المرض.
بذلوا جهوداً لا مثيل لها حتى أعياهم التعب، فهم خط الصد الأول أمام الوباء، ووضعوا تحت ضغطٍ لا مثيل له منذ عقودٍ طويلة، فاستحقوا أن يوصفوا بـ"جنود الأرض".
ومنذ أن ظهرت أولى الحالات في "ووهان" وسط الصين، هرع العلماء إلى المختبرات لِكشف أسرار هذا الفيروس القاتل وفكّ لُغزِهِ.
نسمع يومياً عن توصل العلماء للقاح جديد ضد كورونا، وبالفعل أجرت بعض الشركات تجارب أولية لِلقاحها الجديد، لكن قبل أن نعلّق آمالنا على هذه اللقاحات لا بد من معرفة ماهيّة تلك اللقاحات؟ وكيف تعمل؟ وما المدة المتوقعة لتصبح جاهزة للاستخدام؟
كل هذه الأسئلة وغيرها يجيب عنها هذا التقرير، الذي يأتي ضمن سلسلة من التقارير العلمية المستندة إلى مصادر موثوقة نشرها موقع "الخليج أونلاين".
ما هو اللقاح؟ وماذا يفرق عن العلاج؟
يعرّف اللقاح على أنه مستحضر بيولوجي يقدم المناعة الفاعلة المكتسبة تجاه مرض معين.
ويتم تحضير اللقاح بأخذ جزء من الفيروس وإضعافه ومن ثم حقنه بتركيز معين في جسم الإنسان ليقوم الأخير بتشكيل مناعة ضد هذا النوع من الفيروسات؛ فهو يعطى للإنسان لتشكيل حصن ضد المرض في المستقبل، بمعنى آخر يُعطى والإنسان بحالة صحية جيدة غير مريض.
أمّا العلاج فهو مستحضر كيميائي على الغالب يتم إعطاؤه لعلاج وتخفيف وطأة المرض، فهو يعطى بعد أن يصاب الإنسان بالمرض.
كيف يتم تحضير لقاح "كوفيد 19"؟
قبل البدء بتحضير أي لقاح لأي فيروس يعمل العلماء دراسات موسّعة لفهم الفيروس بشكل كامل.
فبعد أن يستوعب العلماء آلية تفاعل الفيروس مع الجسم المضيف وتحديد طرق مهاجمته للخلايا يبدؤون بتحضير طرق معينة لإضعاف الفيروس، ومن ثم حقنها في جسم الحيوانات لغرض الدراسة الأولية.
لكن في حالة إنتاج لقاح "كورونا الجديد" تم تجاوز مرحلة الاختبارات على الحيوانات، وبعد ذلك يجب أن يمر الفيروس بأربع مراحل:
المرحلة الأولى
تعرف هذه المرحلة "تجربة سريرية للمرحلة الأولى"، والتي رأيناها قبل أيام يجريها معهد "كيزر" للبحوث في الولايات المتحدة الأمريكية، عبر حقن أحد المتطوعات بذراعها.
وهذا يعني أن الغرض الرئيسي من هذه التجربة هو توفير معلومات حول كيفية تفاعل اللقاح مع جسم بشري سليم، وفقاً لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA).
تفحص تجارب المرحلة الأولى مجموعة صغيرة من الأشخاص تتراوح عادة بين 20 و80 شخصاً، يتلقون جرعات مختلفة من العلاج التجريبي.
على مدار عدة أشهر يراقب الباحثون كيفية استقبال كل متطوع للعلاج المحدد، وما هي الآثار الجانبية الشائعة التي تظهر استجابة لجرعات مختلفة.
في حالة اللقاح الجديد سيتلقى 45 متطوعاً جرعات مختلفة من اللقاح الجديد، والمسمى "mRNA-1273"، وستتم مراقبتهم على مدى 14 شهراً.
وسيتلقى المتطوعون حقنتين من اللقاح في الجزء العلوي من الذراع، مع فترة مدتها 28 يوماً بين الجرعات.
بالإضافة إلى مراقبة الآثار الجانبية سيختبر الباحثون ما إذا كان اللقاح يؤدي إلى استجابة مناعية من خلال تحليل دم المتطوعين للأجسام المضادة.
بعد تجربة المرحلة الأولى من اللقاح التجريبي يجب بعد ذلك اختبار الدواء في مجموعات أكبر من الأشخاص وعلى مدى فترات زمنية أطول، في تجارب المرحلة "2" و"3"، وفقاً للمراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC).
تفحص تجارب المرحلة الثانية عادةً عدة مئات من الأشخاص وتراقب المشاركين لفترات تتراوح من عدة أشهر إلى سنتين.
في المقام الأول تعمل تجارب المرحلة الثانية كمقياس ثانوي للأمان وتساعد الباحثين على تحسين جرعات اللقاح.
وفي هذه المرحلة يختار الباحثون مشاركين بخصائص معينة؛ مثل العمر والصحة البدنية، تتناسب مع خصائص الأشخاص الذين يتم تطوير اللقاح من أجلهم.
فعلى سبيل المثال، على الرغم من أن أي شخص يمكن أن يصاب بـ"كوفيد 19"، فإن كبار السن والذين يعانون من حالات مزمنة هم أكثر عرضة للإصابة بأعراض حادة، لذلك يمكن أن يكون هذا في الاعتبار في تجارب المرحلة الثانية.
عادةً ما تتبع تجارب المرحلة الثالثة 300 إلى 3000 متطوع على مدار سنة إلى أربع سنوات، وفقاً لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية.
ومع مجموعة أكبر من الناس يمكن للباحثين ملاحظة الآثار الجانبية غير المعتادة للدواء، حيث يمكنهم التقاط آثار جانبية على المدى الطويل.
المرحلة الثالثة
يجب أن تثبت تجارب هذه المرحلة أن دواءً معيناً يوفر الفوائد الطبية التي يقصدها.
وفي التفصيل؛ إذا اجتاز لقاح الفيروس التاجي هذا الاختبار يمكن أن توافق إدارة الغذاء والدواء على الدواء للاستخدام على نطاق واسع.
المرحلة الرابعة
بعد موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)، تخضع الأدوية للمرحلة الرابعة من التجارب السريرية، والمعروفة باسم "تجارب المراقبة بعد التسويق".
بمجرد دخول الدواء للاستخدام العام يراقب الباحثون عدة آلاف من المتطوعين لتحديد الآثار الجانبية التي لم تظهر في التجارب السابقة، وتتبع مدى عمل اللقاح على مدى فترات طويلة من الزمن، وفقاً للمعهد الوطني للسرطان.
متى يجهز لقاح كورونا؟
تتسابق حالياً نحو 35 شركة ومعهداً أكاديمياً عالمياً لإنتاج اللقاح الجديد، ومن حسن الحظ أنّ التقنيات الحديثة قد سرّعت من بعض الخطوات، وكذلك الأبحاث التي قدمتها الصين للعالم وجعلتها تحت متناول أيدي الخبراء، إضافة إلى ذلك الأشواط الكبيرة التي قطعها العلماء في إيجاد لقاح لفيروس السارس في السابق.
فكما هو معلوم فإن فيروس "كوفيد 19" وَفيروس "السارس" وَفيروس "ميرس" تنتمي لعائلة فيروسية واحدة وهي "الفيروسات التاجية"، وتتشابه جميعها بالتركيب الوراثي لها بنسبة 80%.
كل هذه الظروف ساهمت باختصار بعض الوقت لإنتاج الفيروس الجديد، لكن مع ذلك فإن اللقاح الجديد لا يمكن أن يكون جاهزاً في فترة أشهر قليلة كما يحاول بعض رؤساء الدول إظهاره، مثلما قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وفي هذا الإطار قال مدير مركز "NIAID" (المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية)، الدكتور أنتوني فوسي: إن "إيجاد لقاح آمن وفعال للوقاية من الإصابة من فيروس كوفيد 19 هو أولوية عاجلة للصحة العامة".
وأضاف: "دراسة المرحلة الأولى التي تم إطلاقها بسرعة قياسية هي أول خطوة مهمة نحو تحقيق هذا الهدف".
وقال أنيليس وايلدر سميث، أستاذ الأمراض المعدية الناشئة في مدرسة لندن للصحة والطب الاستوائي: "مثل معظم مختصي اللقاحات لا أعتقد أن هذا اللقاح سيكون جاهزاً قبل 18 شهراً".
أمّا منظمة الصحة العالمية فقد بيّنت في لقاءٍ صحفي، الأحد (23 مارس)، أنها تتوقع أن يكون اللقاح جاهزاً للاستخدام في غضون عام على الأقل، لافتةً إلى أن الخطر يكمن في عودة المرض للانتشار أكثر بعد رفع العزل الصحي.
وفي العموم إن اجتاز اللقاح جميع الاختبارات السابقة وأخذ جميع الموافقات المطلوبة فقد تظهر مشاكل في طريقه قبل أن يرى النور، ومن أهم تلك المشاكل:
ألا تتمكن الشركات والمراكز البحثية من الحصول على التمويل اللازم، فضلاً عن عدم تأمين العدد الكافي من المتطوعين.
وإضافة إلى ذلك، عدم قدرة الشركات على إنتاج كميّات كافية لجميع الناس.
وتعتقد شركة "Moderna" الأمريكية التي أجرت الاختبارات الأولية الأسبوع الفائت أنها يمكن أن تنتج 100 مليون جرعة في السنة، وهذا رقم بعيد عن حاجة جميع الدول.
وعلاوة على ذلك تظهر مشكلة التأكد من وصول اللقاح إلى كل من يحتاج إليه، وهذا تحدٍّ حتى داخل البلدان؛ فعلى سبيل المثال ستعطي المملكة المتحدة الأولوية لتلقيح العاملين في مجال الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية، إلى جانب أولئك الذين يعتبرون الأكثر عرضة للخطر الطبي؛ كالأطفال والنساء الحوامل، مع الهدف العام المتمثل في الحفاظ على المرض والوفيات منخفضة بقدر الإمكان.
ولكن في حالة الوباء يتعين على البلدان أيضاً التنافس فيما بينها للحصول على الأدوية.
ونظراً لأن الأوبئة تميل إلى إصابة أشد البلدان التي لديها أنظمة رعاية صحية أكثر هشاشة وقلة التمويل فهناك اختلال متأصل بين الحاجة والقوة الشرائية للدول عندما يتعلق الأمر باللقاحات.
خلال جائحة إنفلونزا "H1N1" في عام 2009، على سبيل المثال، حجزت إمدادات اللقاحات من قبل الدول التي تستطيع تحمل تكاليفها، تاركةً الدول الأكثر فقراً بلا لقاح.
كذلك في حال أنتجت الشركات اللقاح من دول منتجة كالهند مثلاً فلن نتوقع منها أن تصدر قطعة لقاح واحدة إلا بعد أن تكتفي الهند منها وتلقح جميع سكانها البالغ عددهم ملياراً و250 مليون نسمة.
العلاج المستخدم حالياً
تستخدم بعض السلطات الصحية دواء "ريميسيفير" المضاد للفيروسات، والذي تم اختباره كعلاج محتمل خلال تفشي الإيبولا.
وقال روبرت ريدفيلد، مدير مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها، في جلسة منفصلة الأسبوع الماضي، إن العقار يستخدم في ولاية واشنطن.
كما تستخدم بعض الدول مواد المضادة للفيروسات العامة مثل مادة "كاليترا"، التي طورتها شركة الأدوية "AbbVie"، وإن كانت غير مجدية إلى حد كبير، لكنها تبقى أفضل من اللاشيء.
كما أن هناك أبحاثاً عن جدوى استخدام دواء "الهيدروكسي كلوروكين"، الذي يستخدم في الأصل في مكافحة الملاريا، وأنّ هذا الدواء حقق نتائج جيدة في التجارب الأولية.