منذ أن انطلق الحراك الشعبي في السودان، بدايات عام 2019، والذي تسبب بإسقاط رأس النظام السوداني عمر البشير، في أبريل من ذات العام، كان هناك الكثير من التحديات التي تواجه البلد الذي يعاني اقتصادياً ومزقته الحروب الداخلية والعقوبات الدولية.
واستطاع السودانيون بعد نحو 4 أشهر التوصل لاتفاق بين المدنيين (ممثلي الثورة)، والعسكر الذين أطاحوا بالبشير، والذي أدى لتشكيل مجلس سيادي مشترك (عسكري مدني) انبثقت عنه حكومة انتقالية تسلم رئاستها عبد الله حمدوك، الشخصية التوافقية في البلاد.
ورغم كل ما مر بالسودان من اقتتال وتمردات وانقلابات عسكرية في تاريخه وحراك شعبي تمت مواجهته بالعنف خلال العام الماضي، لكن لم تكن الساحة السياسية السودانية مسرحاً للتفجيرات والاغتيالات السياسية بشكل كبير، ولم يشهد العام الماضي أياً منها، مع وجود مرحلة انتقالية وتغيرات جذرية بالبلاد.
لكن صباح يوم الاثنين (9 مارس 2020)، طرأ حدث جديد ربما قد يغير المعادلة؛ وهو محاولة اغتيال فاشلة لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك، في العاصمة الخرطوم، استطاع النجاة منها.
غريبة عن المجتمع المحلي
وتمت مهاجمة موكب حمدوك خلال انتقال موكبه من منزله إلى مقر عمله في مبنى رئاسة مجلس الوزراء عبر التفجير بسيارة مفخخة، ثم تعرض الموكب لإطلاق رصاص أسفل جسر كوبر، إلا أن رئيس الحكومة لم يصب بأي أذى ولا المجموعة المرافقة له.
وأظهرت صور سيارتي دفع رباعي في أحد الشوارع وقد لحقت بهما أضرار، كما تضررت سيارة أخرى من شدة الانفجار.
وفي أول تعليق بعد نجاته قال حمدوك في تغريدة له على حسابه بتويتر: "أطمئن الشعب السوداني أنني بخير وصحة تامة".
وتعد محاولة اغتيال مسؤول سوداني على رأس الحكومة حادثة غير موجودة في تاريخ البلاد، وغريبة على المجتمع المحلي، وهو ما عبّرت عنه الشرطة السودانية في بيان لها قائلة: إن "هذا العمل دخيل وخطير على البلاد لم يحصل على مر تاريخ السودان الحديث".
وأضافت: إن "الأجهزة الأمنية وضعت نفسها في حالة استنفار قصوى ومتابعة دقيقة للوصول إلى كشف هذا المخطط الإرهابي".
ومن فوره أعلن مجلس الوزراء السوداني بدء السلطات المختصة التحقيق في محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها حمدوك.
وقال المجلس في بيان: "لقد استشرف شعبنا فجر عهد جديد، وهو قادر عن الدفاع عنه بكل غالٍ ونفيس، وسيتم التعامل بالحزم اللازم مع كل المحاولات الإرهابية والتخريبية قدماً في تنفيذ مهام الثورة وتفكيك ركائز النظام القديم".
تجمع المهنيين السوداني أحد أبرز مكونات "إعلان قوى الحرية والتغيير" الشريك في السلطة، والذي تصدر مشهد الحراك في البلاد، وجه نقداً لاذعاً للأجهزة الأمنية، قائلاً: "الحادثة تكشف أن هناك ضعفاً مريعاً في أداء المنظومة الأمنية، وعلى رأسها تلك المتعلقة بتصفية جيوب النظام البائد لتجنيب البلاد المزيد من جرائم الحقد والهزيمة".
من جانبه رفض الشعب السوداني الحدث بشكل سريع، وخرجت جموع منه إلى الشوارع في عدة ولايات منددة بالهجوم، ما بدا دعماً قوياً لشخصية عبد الله حمدوك، التي توصف بالاعتدال، ومعبرين عن أن الهجوم هو استهداف لـ"الثورة السودانية".
في المقابل حملت محاولة الاغتيال إدانة واسعة من عدة دول عربية وعالمية، بالإضافة لاستنكار وإدانة محلية من الأحزاب السياسية المعارضة والشريكة في السلطة أيضاً.
وكان من أبرز من دان التفجير بعد وقوعه جامعة الدول العربية، معبرة عن صدمتها، ومؤكدة التزامها بالوقوف مع السودان في عملية الانتقال الديمقراطي.
وكذلك دان التفجير من الدول العربية كل من السعودية والإمارات ومصر.
ودان الهجوم وزارة الخارجية الأمريكية على لسان المسؤول فيها تيبور ناجي، قائلاً: إن واشنطن "تدعم بقوة حكومة السودان الانتقالية التي يقودها المدنيون، وتقف إلى جانبها وإلى جانب الشعب السوداني".
من جهته قال ممثل الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية غوسيب بوريل: "نشعر بالأسف جراء محاولة اغتيال رئيس الوزراء السوداني، ونؤكد مواصلة دعمنا للحكومة السودانية".
وفي الجانب المحلي نددت أحزاب سودانية بالمحاولة، وكان على رأسها حزب الأمة السوداني، أحد أكبر أحزاب البلاد، وحزب المؤتمر الشعبي (أسسه المفكر الإسلامي الراحل حسن الترابي)، والجبهة الوطنية للتغيير، وكذلك حزب الرئيس المعزول عمر البشير "المؤتمر الوطني" (المحظور في البلاد).
وقال رئيس الحزب إبراهيم غندور على صفحته بفيسبوك: "إن محاولة اغتيال حمدوك لا تشبه قيم الشعب السوداني، وندين ما حدث، وندعو أن يسلِّم الله وطننا وشعبنا من الفوضى ومستنقع الفتن".
فيما قال المتحدث الرسمي باسم الجبهة الوطنية للتغيير المعارضة، في حديث مع "الخليج أونلاين": "ندين هذا العمل الإرهابي الذي تعرض له رئيس الوزراء بأقوى العبارات، ونحمل الحكومة القائمة المسؤولية الكاملة في أداء واجبها في هذه اللحظة؛ وهو البحث عن الجناة وتقديمهم للمحاكمة فوراً، وسنظل نتابع تداعيات هذا العمل الإجرامي".
تفجير
من يقف خلف التفجير؟
ويأتي الاستهداف في ظل وضع اقتصادي متدهور، وغلاء في الأسعار، خصوصاً الخبز والوقود، ما يشكل أزمة على المواطنين.
وسبق الحادث بيوم واحد تشكيل هيئة اقتصادية برئاسة قائد الدعم السريع المثير للجدل، محمد حمدان دقلو المعروف باسم "حميدتي"، رغم أنه غير أكاديمي وقادم من بيئة شعبية غير عسكرية أيضاً، بالإضافة لآخرين معه، إذ تهدف الهيئة المشكلة لمعالجة الأزمات الاقتصادية التي تواجه مجلس الوزراء.
ويعد حميدتي من أبرز المدعومين من قبل تحالف "الثورات المضادة" (الإمارات والسعودية)، حيث كان يقود الجنود السودانيين في حرب اليمن التي تقودها الرياض، وكان له دور بارز في قمع الاحتجاجات السودانية المطالبة بحكم مدني.
كما بدت البيانات الرسمية أقرب ما تكون لتوجيه الاتهامات للنظام السابق دون تحديد أي جهة فيه، حيث إن النظام لا يعتبر حزب المؤتمر الوطني المحظور فقط، فالمجلس العسكري الحالي أيضاً هو من تركيبة نظام البشير، وهناك القوى الأمنية وأجهزة المخابرات ومليشيات ضُمت مؤخراً للجيش.
ويلقى حمدوك رضى شعبياً نوعاً ما، إلا أنه في المقابل يقف في وجهه معارضة شرسة وتدخلات عسكرية في الحكم؛ مثل الحزب الشيوعي السوداني، الذي لا يتوقف عن مهاجمته، خصوصاً بما يتعلق بالاقتصاد، والمجلس السيادي الذي يقوده عبد الفتاح البرهان، والذي سبق له أن تجاوز صلاحياته بما يتعلق بالتطبيع مع "إسرائيل".
كما أن للكثير من الجهات الخارجية مصلحة في إحداث بلبلة في البلاد، خصوصاً أنها تمر بفترة انتقالية وتأسيسية وخلافات كثيرة مع المحيط العربي؛ مثل أزمة سد النهضة مع مصر، وأزمة تجنيد الإمارات لمدنيين سودانيين للقتال في ليبيا إلى جانب اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وأزمة حرب اليمن وانسحاب الجيش السوداني منها.