بخُطا ثابتة، وبثقل سياسي، وبدبلوماسية متزنة، أوجدت قطر للغة الحوار والتفاوض مكاناً بين الدول، من خلال سعيها لعقد لقاءات تُنهي القتال والتصعيد والخصومات.
وتعد الوساطة القطرية بين الدول الكبرى لوقف الحرب بينها عملاً مألوفاً بالنسبة للدوحة؛ فتاريخها السياسي الحديث يشهد على حضورها في كثير من القضايا الإقليمية والدولية الشائكة، خلال السنوات الماضية، وحلها كثيراً منها، من خلال التوسط وعقد المفاوضات واللقاءات، التي كان آخرها المفاوضات بين الولايات المتحدة وحركة طالبان الأفغانية، والتي تُعقد بالدوحة، في 18 يناير 2020.
وبذلت قطر جهوداً دبلوماسية وسياسية حثيثة على المستويات الإقليمية والدولية، في الوساطة بين الفصائل والكيانات والدول، وبطلب من الأطراف المعنية، ودون التدخل في الشأن الداخلي للدول، لتقريب وجهات النظر وإيجاد حلول مستدامة للنزاعات والخلافات.
واشنطن و"طالبان"
أسهمت الوساطة القطرية في تحقيق السِّلم والأمن الدوليَّين بين الدول، وكان أبرزها استضافة عدد من جولات المحادثات بين الولايات المتحدة وحركة طالبان في مايو 2019، من أجل مناقشة انسحاب القوات الأمريكية وقوات التحالف من أفغانستان.
ونجحت قطر في جلب قادة حركة طالبان إلى طاولة المفاوضات بعد سنوات طويلة من الحرب وإراقة الدماء، بهدف إيجاد حل سياسي للصراع الأفغاني، وإنهاء أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة.
مفاوضات
وسبق هذه المفاوضات إبرام صفقة لتبادل الأسرى، بين "طالبان" والولايات المتحدة بوساطة قطرية، في يونيو 2014، أسفرت عن إطلاق سراح الرقيب بالجيش الأمريكي باو برغدال وتسليمه إلى القوات الخاصة الأمريكية في أفغانستان، مقابل فك أسر خمسة من كبار قادة حركة طالبان، بعد الإفراج عنهم من معتقل غوانتنامو.
ورحب الرئيس الأمريكي باراك أوباما، حينها، بإطلاق سراح برغدال، مؤكداً في خطاب له أن الحكومة القطرية قدمت ضمانات أمنية لواشنطن بشأن المفرج عنهم.
كما وجَّه الرئيس الأمريكي شكراً لأمير قطر؛ وذلك لجهود الدوحة في تسهيل عملية إطلاق الأمريكي كيفن كينغ، والأسترالي تيموثي ويكس، اللذين كانا محتجزَين لدى حركة طالبان، منذ أكثر من ثلاثة أعوام.
مفاوضات جديدة بالدوحة
ومؤخراً وفي 18 يناير 2020، كشفت وكالة "رويترز" عن اعتزام حركة طالبان الأفغانية إيقاف إطلاق النار عشرة أيام، وتقليل الهجمات على القوات الأفغانية، وإجراء محادثات مع مسؤولي الحكومة؛ إذا توصلت إلى اتفاق مع المفاوضين الأمريكيين في محادثات السلام المتواصلة التي ترعاها قطر وتُعقد في عاصمتها الدوحة.
ونقلت عن مصادر، قولها إن الأمر يتعلق بالملا عبد الغني برادر، نائب الشؤون السياسية للحركة، الذي التقى في الدوحة المبعوث الأمريكي، زلماي خليل زاد، بحضور قائد القوات الأمريكية في أفغانستان، الجنرال سكات ميلر.
مفاوضات
ووفق "رويترز"، قال قائد كبير في "طالبان": "أرادت الولايات المتحدة أن نعلن وقف إطلاق النار خلال محادثات السلام، وهو ما رفضناه"، مضيفاً: "وافق مجلس الشورى (بالحركة) على وقف إطلاق النار في يوم توقيع اتفاق السلام".
وذكر أنه بمجرد التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، يمكن أن تعقد "طالبان" والحكومة الأفغانية اجتماعاً مباشراً بألمانيا. وكانت الحركة ترفض في السابق الدخول بمحادثات مع الحكومة، في حين أكد مصدر آخر قريب من المحادثات هذه التصريحات.
أزمة مقتل سليماني
وفي الأزمة التي تمر بها المنطقة حالياً نتيجة التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران والذي تفاقم باغتيال قائد "فيلق القدس" بـ"الحرس الثوري"، قاسم سليماني، مطلع يناير 2020، وردِّ الإيرانيين بقصف مقار أمريكية في العراق، برزت قطر بدور الوسيط؛ من أجل تخفيف حدة التوتر، والوصول إلى الهدوء وإنهاء الخلافات.
وبحسب ما ذكره الشيخ جوعان بن حمد آل ثاني، شقيق أمير قطر، فإن بلاده تؤدي دور "الوساطة لقيادة المنطقة إلى السلام".
ويأتي تصريح الشيخ جوعان بعد نشاط دبلوماسي قطري خلال الأيام القليلة الماضية، تمثل بأول زيارة يجريها أمير قطر لإيران منذ توليه منصبه في عام 2013، وسط استقبال رسمي كامل، كان على رأسه الرئيس الإيراني حسن روحاني، وفقاً لتقارير نقلتها وكالتا الأنباء الرسميتان في الدوحة وطهران.
وآخر هذه التحركات القطرية كان اجتماع وزير الخارجية، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، مع مسؤولين عراقيين، الأربعاء (15 يناير الجاري)؛ "لبحث العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين ومستجدات الأوضاع في المنطقة"، وفقاً لتغريدةٍ نشرها الوزير القطري على صفحته الرسمية بـ"تويتر".
من جهته، تحدَّث مدير المكتب الإعلامي في وزارة الخارجية القطرية، أحمد بن سعيد الرميحي، عن دور بلاده في التحرك لتدارك تفاقم الأزمة بين الولايات المتحدة وإيران.
وقال الرميحي لصحيفة "القبس" الكويتية، الخميس (16 يناير): إن "تحرُّك الدوحة جرى مباشرة بعد مقتل سليماني؛ لأنها كانت تحذِّر من أن توالي مظاهر التصعيد يمكن أن يقود المنطقة إلى نتائج لا تُحمد عقباها".
وأشار المسؤول القطري إلى "اتصالات دولية مكثّفة أجراها أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، مع أطراف الأزمة، والزيارة التي أجراها لطهران، أكد خلالها أن الحوار هو الحل الوحيد لأزمات المنطقة".
أيدٍ بيضاء لدارفور
وبعيداً عن "طالبان وسليماني"، نجحت الدبلوماسية القطرية في وقف العنف والقتال بدارفور جنوب السودان، إذ احتفلت الدوحة في مايو 2011، باتفاقية سلام دارفور التي أرست دعائم الأمن والاستقرار هناك.
وكانت المبادرة القطرية أكثر الأساليب فاعلية واصطباراً على التفاوض الصعب، فقد استضافت الدوحة المتحاورين أكثر من عامين إلى أن تكللت جهودها بالاتفاقية المسماة "وثيقة الدوحة للسلام"، وكانت نتاج حوار شارك فيه مئات من أهل المصلحة.
وفي حينها أشاد والي ولاية شرق دارفور، بقطر وقال إنها أدت دوراً حيوياً مهماً في استدامة الاستقرار الشامل ببلاده، من خلال جهود محلية وإقليمية ودولية متواصلة، أثمرت دعماً غير مسبوق لملفات السودان في هذه المحافل، وهو ما مكَّنه من تخطي العقبات والصعاب التي كانت تحول دون إحداث الاستقرار وتحقيق الانفراج الكامل في علاقاته الدولية.
وساطات وسط النار
وفي مارس 2014، أسفرت جهود الوساطة القطرية عن الإفراج عن 13 راهبة كنَّ محتجزات في شمالي سوريا، مقابل إطلاق سراح أكثر من 153 معتقلة سورية من سجون النظام السوري.
وقالت وكالة الأنباء القطرية الرسمية في حينها: إنه "بتوجيهات من أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، قامت الأجهزة المعنية في الدولة بجهود حثيثة منذ شهر ديسمبر 2013، للتوسط من أجل إطلاق سراح راهبات معلولا؛ إيماناً منه بمبادئ الإنسانية وحرصه على حياة الأفراد وحقهم في الحرية والكرامة".
وأعلن وزير الخارجية القطري في حينها، خالد العطية، نجاح الوساطة القطرية في إطلاق سراح الراهبات، لافتاً إلى أن جهود قطر لإطلاقهن أسفرت عن إطلاق سراح أكثر من 153 معتقلة سورية من سجون النظام السوري.
وفي لبنان، كانت قطر حاضرة بقوة، من خلال تحقيق صفقة تبادل بين الجيش اللبناني و"جبهة النصرة" في سوريا، إذ عملت الدوحة على تنفيذ صفقة أسرى أسفرت عن الإفراج عن 16 جندياً لبنانياً في ديسمبر 2015، مقابل إفراج الحكومة اللبنانية عن 25 سجيناً، طالبت "النصرة" بإطلاق سراحهم، بينهم 17 امرأة.
لبنان
وعند إتمام الصفقة وجَّه رئيس الحكومة اللبنانية في حينها، تمام سلام، لدى استقباله الجنود المفرج عنهم، الشكر إلى دولة قطر وأميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، على الجهود التي بذلتها من أجل التوصل إلى هذا الاتفاق.
وفي صحراء ليبيا، تمكنت قطر من أداء دور وساطة ناجحة بين قبائل التبو والطوارق، ففي 23 نوفمبر 2015، تم في الدوحة توقيع اتفاق سلام بين القبيلتين، بعد مفاوضات استمرت أربعة أيام برعاية قطرية.
ونص الاتفاق على وقف نهائي لإطلاق النار بين الطرفين، وعودة النازحين والمهجَّرين من أهالي مدينة "أوباري" إلى ديارهم، وفتح الطريق العام إلى "أوباري"، وإنهاء المظاهر المسلحة كافة في المدينة.
وأكد الطرفان، في بيان مشترك، ترحيبهما بالجهود المتواصلة لدولة قطر في ظل قيادة أميرها، لتحقيق المصالحة بين الطوارق والتبو، والتي حظيت بموافقة القبائل كافة ومساندة دول الجوار.
ولم تكن تلك الوساطة هي الوحيدة لقطر في ليبيا، إذ أسهمت جهود الدوحة في إنهاء أزمة الطبيب الفلسطيني والممرضات البلغاريات في ليبيا، عقب صفقة أُفرج بموجبها عن هؤلاء، بعد ثماني سنوات قضوها بالسجن، في 2007.
وأكد الرئيس الفرنسي في وقتها، نيكولا ساركوزي، أهمية الوساطة القطرية والمساعدات التي قدمتها حكومة قطر في هذه القضية.
كذلك استضافت قطر جولات للوساطة بين الحكومة اليمنية ومليشيات الحوثي في 2007 و2008، للتخفيف من حدَّة التصعيد، ووقف أي حرب مستقبلية.
الدوحة
وفي أفريقيا كان الثقل السياسي القطري حاضراً، من خلال التوسط لإطلاق أسرى جيبوتيين، ضمن وساطة بين جيبوتي وإرتريا، ليعود الأسرى إلى بلدهم برفقة وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، على متن طائرة خاصة، في مارس 2016.
ورحب مجلس حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة، حينها، بوساطة دولة قطر والتي تُوِّجت بالإفراج عن عدد من الأسرى الجيبوتيين لدى إرتريا.
وأشاد حينها الرئيس الجيبوتي، إسماعيل عمر جيله، بالوساطة القطرية، ودور أمير قطر في إطلاق سراح الأسرى، مشيراً إلى أن علاقات بلاده مع قطر تشهد تطوراً في المجالات كافة.
وفي الشأن الفلسطيني، لم يغِب الدور القطري عن الوساطة لإنهاء الانقسام السياسي الداخلي بين حركتي "فتح" و"حماس"، إذ استقبلت الدوحة وفوداً من الطرفين خلال 2012، نتج عنها توقيع الحركتين في 6 فبراير 2012، اتفاقاً يهدف إلى تسريع وتيرة المصالحة الوطنية بينهما.
وخلال الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة، كان للدوحة دور بارز في التوصل إلى تهدئة بين الفصائل الفلسطينية و"إسرائيل".