لطالما شكل إنتاج الطاقة في منطقة الشرق الأوسط معالم الصراعات والحروب لأكثر من قرن من الزمن، حيث كانت الدول العظمى تتقاتل فيما بينها للسيطرة على أكبر قدر ممكن من منابع النفط لا سيما في دول الخليج وخاصة السعودية، أكبر مصدر للنفط في العالم.
واشتعل الحديث حول النفط وعلاقته بالحروب، مع استهداف غير مسبوق لعملاق النفط السعودي "أرامكو"، الذي أدى وفق ما نقلت وكالة "رويترز" عن ثلاثة مصادر مطلعة، إلى تعطل الإنتاج النفطي السعودي وصادرات المملكة، حيث شمل الهجوم أكبر وثاني معملين لتكرير النفط في العالم.
وأثرت الهجمات التي تبنتها القوات المسلحة اليمنية في صنعاء في 14 سبتمبر الجاري، على إنتاج خمسة ملايين برميل من النفط يومياً، أي قرابة نصف الإنتاج الحالي للمملكة، بحسب أحد مصادر الوكالة.
البديل الأمريكي وانتهاء الحماية
أكثر المنتفعين من النفط السعودي وعائداته التي تحولت مبالغ كبيرة منها لصفقات سلاح مع واشنطن، كان أول الملمحين إلى الاستغناء عن النفط السعودي وضخ بديل له، وفي المقابل تراجع معادلة النفط مقابل الحماية.
حيث قالت الناطقة الرسمية لوزارة الطاقة، شايلين هاينز، في تصريح لشبكة "سي إن إن" الأمريكية: إن الوزير "أمر إدارة الوزارة بالعمل مع وكالة الطاقة الدولية، للبحث عن الخيارات المتاحة المحتملة للعمل العالمي الجماعي، إذا لزم الأمر".
وأشار مسؤول في وزارة الطاقة إلى أن احتياطيات النفط الاستراتيجية الأمريكية تبلغ "630 مليون برميل.. لهذا الغرض خصوصاً".
ولم تكن هذه المرة الأولى التي تشير فيها واشنطن إلى الاستغناء عن النفط السعودي والخليجي بشكل عام، فمقابلة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع مجلة التايم، يوم 18 يونيو 2019، وتصريحاته حول تراجع أهمية تدفق النفط من منطقة الخليج العربي نحو بلاده، أثارت العديد من التساؤلات بشأن نهاية عهد الحماية الأمريكية لحلفائها في المنطقة.
ورغم إرسال واشنطن قوات عسكرية ضخمة إلى منطقة الخليج خشية تعرض إمدادات النفط للتهديد من إيران، فإن ترامب بدا من خلال حديثه قد تراجع عن اللجوء إلى القوة بشأن حماية الإمدادات، في حين أبدى استعداده القيام بعمل عسكري لمنع طهران من امتلاك سلاح نووي.
وتصاعدت المخاوف من مواجهة بين إيران والولايات المتحدة منذ الهجوم على ناقلتي نفط قرب مضيق هرمز الاستراتيجي يوم (13 يونيو 2019)، الذي وجهت واشنطن أصابع الاتهام فيه إلى إيران، وما تبعه من تصعيد واحتجاز سفن وإسقاط طائرات مسيرة.
وتحدث ترامب مع مجلة تايم الأمريكية بنبرة اختلفت عمَّا دعا إليه بعض أعضاء الكونغرس الأمريكيين بضرورة التعامل مع إيران عسكرياً، واعتبر تأثير الهجوم على ناقلتي نفط في خليج عُمان "طفيفاً للغاية".
وأيد تصريحات ترامب وزير الخارجية مايك بومبيو بالقول: إن "الولايات المتحدة لا تريد للصراع مع إيران أن يتصاعد، لكنها ستواصل حملة الضغط"، مضيفاً: إن "الرئيس ترامب لا يريد الحرب بينما نفعل ما يلزم لحماية المصالح الأمريكية في المنطقة".
وقلل الرئيس الأمريكي من أهمية النفط المستورد من منطقة الخليج (تتزعم السعودية معظم صادراته النفطية) بالنسبة لأمريكا بالقول: "نحن نحصل على كميات ضعيفة جداً بعد أن أحرزنا تقدماً كبيراً حول الطاقة في العامين ونصف الماضيين"، مشيراً إلى قرب تصدير بلاده للنفط والطاقة.
وخلال القمة السعودية الأمريكية التي عقدت في مايو 2017، وقع الملك سلمان وترامب عدة اتفاقيات تعاون عسكري ودفاعي وتجاري بقيمة 460 مليار دولار، في حين قال وزير التجارة السعودي، ماجد القصبي، إن بلاده منحت تراخيص للاستثمار بالمملكة لـ23 من كبرى الشركات الأمريكية.
وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية كان ترامب يطالب السعودية بـ "الدفع مقابل الحماية"، إذ قال في أكثر من مناسبة إنه يتعين عليها دفع الأموال مقابل ذلك، إلا أن هجمات أرامكو الأخيرة أبعدت حجة حمايتها من الخطر الإيراني، بعد تأكيد الرياض أن القصف قد تم بأسلحة إيرانية ومن خارج اليمن.
وفي 2015 غرد على صفحته في تويتر، أي قبل وصوله إلى البيت الأبيض: "إذا كانت السعودية التي تدر مليار دولار كل يوم من النفط تحتاج إلى مساعدتنا وحمايتنا، فإن عليهم أن يدفعوا ثمناً كبيراً. لا فطائر مجانية".
وقبل ذلك بعام قال: "إن على السعودية إما أن تقاتل في حروبها بنفسها (ولن تفعل)، أو أن تدفع لنا ثروة طائلة لحمايتها هي وثرائها؛ تريليون دولار".
ومن هنا يمكن الاستدلال أن تصريحات ترامب ليس جديدة أو عابرة، بل مخطط لها ومدروسة وينفذها رويداً رويداً دون النظر إلى أي علاقة استراتيجية قوية وصلبة كانت بين واشنطن والرياض على مدار العقود الماضية، وهو ما أشار إليه مغردون أمريكيون تداولوا تغريدة ترامب تلك تزامناً مع هجمات أرامكو.
مصالح أمريكا أم دول الخليج؟
وحول النفوذ الأمريكي في المنطقة، يعتقد الباحث والخبير الاقتصادي هادي فتح الله، أن إدارة ترامب لا يمكنها أن تقدم على أي خطوة في الوقت الحالي ما لم تضعها في ميزان الانتخابات المقبلة؛ لأن "كل ما يهم الرئيس الأمريكي في الوقت الحالي هو الحشد للفوز في الانتخابات والتغطية على أثر التحقيقات الجارية فيما يخص التدخل الخارجي فيها".
وأضاف، في حديث صحفي": "بالتأكيد لن تنسحب أمريكا من المنطقة؛ لأن الولايات المتحدة استثمرت كثيراً في العراق والسعودية والكويت ودول أخرى".
لكن بالمقابل، يقول فتح الله، "الوجود الأمريكي في المنطقة لن يكون لتأمين مصادر النفط؛ لأن الولايات المتحدة تستورد حالياً أقل من مليون برميل سنوياً، وبحسب قول ترامب، فإن مصادر إنتاج النفط في المنطقة لم تعد ذات أهمية بالنسبة للإدارة الأمريكية".
أما موضوع وجود الولايات المتحدة في المنطقة، لا سيما الخليج العربي، فهو ضمن استراتيجية تعزيز نفوذها حول العالم بالأساس وعدم فسح المجال للنفوذ الصيني أو الروسي، وليس فقط تأمين مصادر النفط، بحسب ما يقول الخبير الاقتصادي لـ"الخليج أونلاين".
وأردف فتح الله، الباحث في مركز كارنيغي للبحوث (بيروت): "بالنسبة لإنتاج أمريكا من النفط، فإن مصانع تكرير النفط في الولايات المتحدة بالأصل تعتمد على النفط المستورد من المنطقة العربية؛ لذا لا يوجد شيء اسمه اكتفاء الولايات المتحدة ذاتياً من النفط".
واستكمل: "أمريكا تنتج من النفط ما يكفي للتصدير؛ ليساعدها في ميزانها التجاري أكثر من أي شيء آخر؛ لذا ما يهم أمريكا في دول الخليج هو رفع مستوى التعامل التجاري وزيادة التعامل بالدولار، وما دامت عملية تدوير النفط مقابل الدولار، وعودة الدولار مقابل شراء دول الخليج أسلحة وأنظمة دفاعية، مستمرة فاحتمالية تخلي أمريكا عن هذا الميزان التجاري غير واردة إطلاقاً".
وفيما يخص الوجود الأمريكي في المنطقة، أشار هادي فتح الله إلى أنه "لا يمكن النظر إلى تموضع ونفوذ أمريكا في الشرق الأوسط من منظار استيراد وحماية إنتاج النفط؛ ذلك أن كل حقل من النفط الصخري يمكن أن ينتج على مدى سنة أو سنتين أو كحد أقصى ثلاث سنوات، لذا فحتى على المدى الطويل لا يمكن اعتبار أن أمريكا سيكون لديها إنتاج عال، فمن هذا المنطلق لا يمكنها التخلي نهائياً عن المنطقة والنفط العربي".
وتطرق إلى الهدف الأساس من الوجود الأمريكي في المنطقة بالقول: "لا يمكن أن تترك أمريكا المنطقة أو دول الخليج لنفوذ الصين؛ لأنه ليس من مصلحتها زيادة نفوذها في المنطقة، ليس لوجود مصادر النفط إنما استمراراً لاستراتيجية النفوذ الأمريكي عالمياً، لذا أمريكا غير مستعدة للحرب مع إيران ولا يمكنها شن حرب لأجل حماية دول الخليج، ولا يمكنها أن تضحي بجندي واحد من أجل دول الخليج، مهما دفعت من أموال وصدرت من نفط لأمريكا، ليس هناك شيء يضطرها إلى أن تقدم على خطوة كهذه، إلا إذا كانت ضمن خطة محدودة لتحجيم دور إيران.
ويعتقد الخبير الاقتصادي أن "واشنطن قد تحجم طهران بالضغط اقتصادياً أو ضربات محدودة أو عن طريق قطع أجنحتها في المنطقة، لذا لا يمكن أن ينظر إلى التحركات الأمريكية على أنها مراعاة لمصلحة دول الخليج إنما لأجل المصالح الأمريكية بالدرجة الأولى، والأصل منعها من امتلاك قوة نووية لا أكثر".
قفزة النفط الأمريكي
توشك الولايات المتحدة الأمريكية، قبل نهاية العام 2019، على انتزاع عرش أكبر مصدر للنفط في العالم من روسيا والسعودية، اللتين تتنازعان على تصدر دول العالم كأكبر مُصدر للطاقة.
وفي عام 1900 ازدهرت صناعة النفط بأمريكا وشهد الإنتاج قفزات متتالية، لا سيما مع استخدام النفط وقوداً للسيارات، في حين أصبح النفط أكبر مصدر للطاقة في الولايات المتحدة منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي.
وتتوقع شركة "إكسون" للطاقة أن يبقى النفط أكبر مصدر للطاقة حتى 2040؛ نظراً لمحتوى الطاقة العالية الكامنة فيه بالإضافة إلى سهولة نقله، في حين تشير بيانات ومعلومات الطاقة الأمريكية إلى تصدر الولايات المتحدة المنتجين حول العالم خلال العقود المقبلة.
شركة أبحاث الطاقة "ريستاد إنرجي" أكدت أن الولايات المتحدة ستتجاوز السعودية، قبل نهاية العام فيما يتعلق بصادرات النفط وسوائل الغاز الطبيعي والمنتجات النفطية مثل البنزين.