كثر الحديث، أخيرا، عن عملية برّية عسكرية يخطط لها العدو الإسرائيلي ليرتكب مزيدا من أبشع جرائمه بحقّ سكان قطاع غزّة الذين يواجهون آلة البطش الإسرائيلية ليل نهار على مرأى ومسمع من العالم، وبصمت دولي وغربي مريب، وبمباركة أميركية باستخدام حق النقض (الفيتو) لإجهاض مشروع قرار روسي، لوقف العدوان الإسرائيلي استجابة لهدنة إنسانية طارئة، ومع استمرار العدوان الإسرائيلي للأسبوع الثالث على التوالي، رافق ذلك تدفّق عسكري إسرائيلي بالأسلحة الثقيلة يرابط على تخوم غزة وغلافها، انتظاراً لشن عدوان بري، في محاولة من الاحتلال لاستكمال حلقات بطشه وممارسة انتهكات إنسانية جديدة بحقّ الأبرياء، سيما الأطفال والأمهات.
لن تمرّ معركة إسرائيلية برّية مرتقبة في غزّة هكذا سريعاً ومن دون مفاجآت جديدة، فما فعلته كتائب عز الدين القسّام في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري لخّص مدى الضعف في عناصر جيش الاحتلال، ففي ساعات تساقطت عناصر الوحدة الجنوبية في غلاف غزّة كأوراق التوت، ولم تتمكن تلك العناصر حتى من مواجهة كتائب القسام، ما قد يمثل مؤشّر انتصار مبكّر للمقاومة لهزيمة الجيش الإسرائيلي في حال التوغّل في غزّة، وهو ما يعيد شريط الذكريات إلى الوراء، إلى ملحمة سقوط الصقر الأسود في مقديشو عام 1993، عندما تمكّن الصوماليون بأسلحتهم الخفيفة من مواجهة أعتى آلة عسكرية عالمياً متمثلة في قوات المارينز الأميركية، التي سحل جثث بعض جنودها في شوارع مقديشو، بعد مصرع 18 جندياً أميركياً وإصابة نحو 80، وإسقاط مروحيتين، وانتهت بانسحاب أميركي من مقديشو في مايو/ أيار 1993، من دون أن تتمكّن الولايات المتحدة من تحقيق أجنداتها الخفية والمعلنة، وإن خلّفت وراءها حرباً بالوكالة تموج هنا وهناك في أصقاع الصومال.
ستكون أثمان التوغل العسكري الإسرئيلي في غزّة باهظة، ولن يكون الخروج منه سهلاً، وقد حذّر المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ديفيد بترايوس (2011 - 2012) الاحتلال الإسرائيلي من عواقب دخول مواجهات مفتوحة مع حركة حماس في غزّة، وأن الجيش الإسرائيلي سيواجه وضعاً شبيهاً مثل الذي واجهته القوات الأميركية في الصومال عام 1993، إذ ليس من الممكن الفوز في عام أو عامين، وقد يستغرق الأمر عقداً أو أكثر، ما يجعل الوضع بالنسبة للجيش الإسرائيلي صعباً للغاية، والعبرة التاريخية تتجسّد هنا في أن كل غاشم محتلٍّ في أرض غيره سيكون مصيرُه الفشل في النهاية، مهما ارتكب من قتل جماعي وإبادة لأصحاب الأرض، فالأقوياء يصمُدون دوماً، مهما بلغ سيل الدماء من أجل الحرية والانعتاق من ربقة المحتلين.
السردية البكائية التي روجها مكتب نتنياهو بنشر أخبار كاذبة عن قطع كتائب عز الدين القسّام رؤوس أطفال، وتناقلتها وسائل الإعلام الغربية المحسوبة والمتعاطفة مع إسرائيل، تلاشت سريعاً وفضحت البيت الأبيض، وبدا بايدن في جنوحه المخلّ للمحتل الإسرائيلي، حتى وإن مارس الأخير أبشع الجرائم بحقّ أطفال غزّة (1756 شهيدا)، لا يكلّ ولا يملّ من إصدار تصريحات متناقضة، اعتماداً على شائعات وأكاذيب يروّجها مكتب نتنياهو والإعلام الإسرائيلي، لتأتي بعد ذلك بيانات عاجلة من البيت الأبيض لتصحيح ما شاب من لبس وسوء فهم في تصريحات بايدن. السردية الإسرائيلية مجرد استباق الأمور لشن عدوان برّي كبير على غزّة، لكن الحسابات ستكون مكلفة، ولن تبقى دائرة الحرب تمور وتموج فقط في غزّة وما جوارها، بل ربما تمتدّ خيوطها إلى لبنان وسورية واليمن، وذلك في مقابل محاولات وجهود إقليمية حثيثة لمنع تفجّر حرب إقليمية ستمهد الطريق لبروز تكتّلات جديدة في المنطقة، ولن تكون "حماس" وحدها من يدفع الثمن غالياً، ولا أحد يدرك مسبقاً مآلات انفجار الوضع في الإقليم، أو يتكهّن من سيدفع الفاتورة الأكبر في النهاية.
لا يدرك العدو الإسرائيلي حجم الخسائر التي تنتظره في حال قرّر الدخول عسكرياً، ولا الخفايا التي تحتفظ بها "حماس" تحت الأرض وفي أنفاقها
في وضح النهار، انهال القصف الأميركي على مقديشو عام 1993، وارتكب مجزرة سقط فيها 70 شخصاً في منزل كان يجتمع فيه وجهاء عشائر وقبائل، وتذكّر هذه الحادثة بمآسي الحرب التي خلفتها واشنطن هناك وهي التي قادت لاحقاً إلى ملحمة تاريخية سقطت فيها القوات الأميركية في فخّ المليشيات الصومالية المسلحة التي كانت تراهن على عملية برّية تدور أحداثها في أزقة وأحياء ضيقة في مقديشو، عجّلت بخروج تلك القوات من الصومال. ينتظر هذا السيناريو الإسرائيليين في غزّة في حال غامر نتنياهو بدفع جنوده إلى التوغّل عسكرياً، مع وجود تباينات إسرائيلية بشأن الأهداف المتوقعة لعملية برّية وما بعدها: هل تبقى في إطار تحرير الرهائن، أم القضاء على سلاح المقاومة (كتائب عز الدين القسّام وسرايا القدس)؟، وذلك لتحقيق نصر مزعوم على الأقل لحفظ ماء الوجه لجيش إسرائيل المنهزم في اللحظة الأولى من اندلاع الصراع الراهن، سقطت فيه السردية الرائجة لـ"الجيش الذي لا يُقهر"، فبالرغم مما كان يُشاع أن لدى الجيش الإسرائيلي قوة اندفاعية طارئة تستجيب لأي ظرفٍ جديد، فشل في استيعاب صدمة عملية طوفان الأقصى وتحرّك بعد نحو عشر ساعات لتنفيذ مجازره كالعادة، ليصبّ غضبه وثأره على مدنيين عزّل، بينما يستمرّ سلاح المقاومة في القصف من غزّة، وينتظر لقاء العدو في غزّة فوق الأرض وفي أنفاقها.
لا يزال أصحاب الأرض في غزّة الصامدة يحتفظون بزمام المبادرة، برغم آلة البطش ومقصلة الموت الإسرائيلية التي تطاولهم ليل نهار. وتفيد الدلائل بأن اقتحام الجيش الإسرائيلي غزّة برياً تكتنفه صعوبات شاقة وعوائق كثيرة، وأن الجندي الإسرائيلي مسكونٌ بخوف الهزيمة العسكرية وهواجس الأسر في قبضة كتائب المقاومة، ويفتقر للاستعداد النفسي قبل خوض معركة مفتوحة الاحتمالات، ليس أجلها محدودا ومعدودا، فنقطة الضعف لدى إسرائيل تكمن في خشيتها من إطالة أمد الحرب من جهة وعدم جهوزيتها عسكرياً لدخول معركة برّية لن تبقى ساحاتها عند جغرافية غزّة فقط، بل يمكن أن يمتدّ لهيب النار إلى الحدود اللبنانية والسورية، تلك الهواجس المريبة هي السبب وراء التلكؤ لأي مخطّط عسكري إسرائيلي لاجتياح غزّة راهناً، لكن النية المبيّتة لتهجير سكان غزّة من خلال القصف الجوي المستمرّ وقطع شريان الحياة وما يمدّهم من إكسير الحياة، تخطيط إسرائيلي ممنهج بالتواطؤ مع الغرب، وبصمت عربي يظلّ موقف المتفرّج، ولا يكاد يجتمع لاتخاذ موقفٍ حازمٍ يوقف العدوان الإسرائيلي.
يمكن أن تتجرّع إسرائيل مع توغلها العسكري مرارة، وتتلقّى نكسات الهزيمة من المقاومة، فتضطرّ لمراجعة حساباتها للتراجع عسكرياً أو المضي نحو مزيد من الانخراط في الوحل
لافتٌ أن نقاط القوّة لدى كتائب عزّ الدين القسام تكمن في عنصر المفاجأة، ولا يدرك العدو الإسرائيلي حجم الخسائر التي تنتظره في حال قرّر الدخول عسكرياً، ولا الخفايا التي تحتفظ بها "حماس" تحت الأرض وفي أنفاقها مع تطوّر سلاحها القتالي تدريجياً وعلى مر السنين. قد تكون المفاجأت ثقيلة هذه المرّة على الاحتلال الإسرائيلي، وربما ستكون ضراوة القتال والمواجهة أشد من 7 أكتوبر، فالقتال في أحياء سكنية عشوائية وحرب العصابات (الكرّ والفر) لا يجيدها الغزاة بقدر ما هي ساحات تدريب يومية لأبناء الأرض، ولهذا يبقي الجندي الإسرائيلي مسكونا بهاجس "إما الموت أو الأسر بيد حماس"، توازيا مع تضارب الأجندات في البيت الإسرائيلي من الفشل والعار الذي لحق بنتنياهو، إلى درجة حرق وثائق هامة وسرّية، كلها يمكن أن تبطئ وتيرة الاجتياح عسكرياً نحو غزّة.
في النهاية، ليس من المستبعد أن تنفذ إسرائيل اجتياحاً عسكرياً في غزّة في أية لحظة، وتوحي عدة مؤشّرات بهذا، لكن أحدا لا يستطيع توقّع حجم الخسائر التي ستتكبّدها آلة القتل الإسرائيلية، وإلى مدى يمكن أن تتحرّك القوات الإسرائيلية في جيوب أمنية تعرفها المقاومة شبراً شبراً. ومع تفوق الجيش الإسرائيلي عسكرياً مقارنة بسلاح المقاومة، إلا أن تكتيكات القتال تختلف في بيئة صعبة، هامش تحرّك العدو فيها ضئيل جداً. ولهذا يمكن أن تتجرّع إسرائيل مع توغلها العسكري مرارة، وتتلقّى نكسات الهزيمة من المقاومة، فتضطرّ لمراجعة حساباتها للتراجع عسكرياً أو المضي نحو مزيد من الانخراط في الوحل حتى أخمص أقدامها، يكون الخاسر الأكبر فيها دولة الكيان وحليفتها واشنطن، فهل ستتكرّر ملحمة سقوط الصقر الأسود هذه المرّة في غزّة؟