مع بداية عام 2023 تدخل الحرب في أوكرانيا الشهر قبل الأخير من عامها الأول، والإشارات متضاربة بشأن مسارها، فهل تجنح أمريكا إلى السلم؟ أم تجد روسيا نفسها مجبرة على مواصلة الحرب؟
فمع الساعات الأولى من العام الجديد، دوّت أصوات انفجارات في كييف وأماكن أخرى في أنحاء أوكرانيا، وانطلقت صافرات الإنذار في جميع أنحاء البلاد للتحذير من غارات جوية، بحسب رويترز.
جاءت الهجمات بعد دقائق من رسالة وجهها الرئيس الأوكراني،لشعبه بمناسبة العام الجديد، عبر فيها عن أمنياته بتحقيق النصر لبلاده في الحرب التي دخلت شهرها الحادي عشر دون أن تلوح في الأفق أي نهاية لها.
لكن الأمنيات شيء والواقع شيء آخر، إذ إن أغلب المحللين والمراقبين الغربيين يرون أن تحقيق أوكرانيا انتصاراً على روسيا في ساحة المعركة أمر شبه مستحيل، وفي الوقت نفسه هناك إجماع على أن تراجع الرئيس الروسي، بوتين، أمر غير وارد، فماذا يعني ذلك للحرب التي يعاني منها العالم أجمع؟
لماذا يبدو السلام في 2023 بعيد المنال؟
حين تجاوزت الحرب الروسية في أوكرانيا عتبة الـ10 أشهر، في 24 ديسمبر/كانون الأول، كانت خسائرها هائلة، إذ أسفرت الحرب عن سقوط مئات الآلاف من الضحايا، عديد منهم من المدنيين الأوكرانيين، بينما أجبرت ملايين آخرين في البلاد على الفرار من ديارهم. وامتد أثر الحرب إلى جميع أنحاء العالم، وأضرت بكل شيء من الطاقة إلى الإمدادات الغذائية.
مجلة Foreign Policy الأمريكية نشرت تحليلاً عنوانه "السلام قد يكون بعيد المنال في أوكرانيا عام 2023"، رصد احتمالات تحقيق السلام مقابل استمرار الحرب، من خلال 3 عوامل رئيسية.
ولا يبدو أن الحرب ستنتهي قريباً، فالإشارات المتضاربة عن مصير الحرب في عام 2023 تبدو كثيرة. من ناحية، لم يُظهر بوتين أي استعداد للتراجع عن أهدافه الحربية، وأشار إلى أن هذه الحرب قد تتحول إلى "عملية طويلة الأمد". وتنتشر أيضاً بعض الأقاويل عن هجوم روسي جديد- يحتمل أن يحدث بمشاركة بيلاروسيا- ربما في يناير/كانون الثاني.
كما أن الهجمات التي شنتها روسيا في الساعات الأولى من العام الجديد جاءت في أعقاب إطلاق أكثر من 20 صاروخ كروز على أهداف في أنحاء أوكرانيا في اليوم الأخير من عام 2022، فيما وصفه المفوض البرلماني الأوكراني لحقوق الإنسان دميترو لوبينيتس بأنه "رعب ليلة رأس السنة".
وقال مسؤولون في كييف على تطبيق المراسلة تليغرام، إنه تم تفعيل أنظمة الدفاع الجوي. وقال أوليكسي كوليبا، حاكم منطقة كييف، إن المنطقة تتعرض لهجوم بطائرات مسيرة، ولم يُعرف على الفور إن كانت أي أهداف تعرضت للقصف.
ومن ناحية أخرى، تُظهر تطورات جديدة مثل تبادل أسرى مهمين بين روسيا والولايات المتحدة، فضلاً عن توسيع مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب، أن الدبلوماسية لا تزال قادرة على تحقيق نتائج ملموسة، في حين تكثف أوكرانيا جهودها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا، من خلال مكالمات وزيارات رفيعة المستوى.
فما الذي تعنيه هذه الإشارات التي تبدو متضاربة حول توقعات سير الحرب عام 2023؟ رغم أنه قد يكون صعباً التنبؤ بنتائج محددة عن الحرب العام المقبل، توجد ثلاثة عوامل أساسية يرجح أن تكون الأكثر تأثيراً في سيرها.
هل تواصل أوكرانيا التقدم في ساحة الحرب؟
العامل الأول والأبرز يتعلق بنجاح أوكرانيا المذهل في ساحة المعركة، إذ خالفت أوكرانيا توقعات كثيرين في قدرتها على صد الهجوم الروسي الكامل، الذي شنته موسكو في بداية العام. فلم تسقط كييف سريعاً في أيدي الروس ولم تنهر حكومة الرئيس فولوديمير زيلينسكي، بل وشنت القوات الأوكرانية في الأشهر الأخيرة هجمات مضادة، واستعادت مساحات كبيرة من أراضيها في مناطق رئيسية مثل خاركيف وخيرسون.
نجحت أوكرانيا في ذلك بفضل مجموعة من الأسباب، أهمها وأبرزها بطبيعة الحال هو الدعم المستمر والهائل من الغرب بقيادة الولايات المتحدة، حيث قدمت إدارة الرئيس جو بايدن بمفردها أكثر من 50 مليار دولار، كما وافق الكونغرس مؤخراً على حزمة دعم جديدة بمبلغ مقارب من ذلك الرقم.
وهناك أسباب أخرى تتعلق بموسكو، منها الأخطاء العملياتية، وسوء التقدير السياسي، إضافة إلى تصميم وتفاني الحكومة الأوكرانية وجيشها وشعبها بشكل عام.
ومستقبلاً، فأوكرانيا في وضع قوي عسكرياً قد يمكّنها من استعادة مزيد من الأراضي في الجنوب والشرق، إذ أثبتت البلاد قدرتها على استخدام مسيّراتها لضرب خطوط الإمداد العسكرية الروسية، بما في ذلك الموجودة في شبه جزيرة القرم وداخل روسيا في مدن مثل كورسك.
لكن في الوقت نفسه سيتوقف مدى الأراضي التي ستتمكن أوكرانيا من استعادتها جزئياً على استمرار الدعم الغربي من حيث المساعدات العسكرية، وكذلك المساعدات المالية لحماية بنيتها التحتية الحيوية وإعادة بنائها.
ومع تعهد داعمي أوكرانيا الدوليين بتقديم أكثر من مليار دولار في صورة مساعدات طارئة لفصل الشتاء، فضلاً عن قرار الولايات المتحدة بتزويد البلاد بصواريخ باتريوت، والموافقة على حزمة مساعدات بقيمة 45 مليار دولار، بعد زيارة زيلينسكي لواشنطن، يرجح أن يزداد هذا الدعم العام المقبل.
ماذا عن الدعم الدولي لروسيا؟
العامل الثاني الحاسم في هذه الحرب في عام 2023 هو مستوى الدعم الدولي لروسيا، ففي حين أبدت الولايات المتحدة ودول الناتو استعدادها المستمر لدعم أوكرانيا وعزل روسيا، لم تُبد الدول غير الغربية موقفاً مماثلاً لذلك الموقف الغربي.
إذ رفضت دول مثل الصين والهند وتركيا المشاركة في فرض عقوبات على روسيا، حتى إن هذه الدول وعديد من الدول الأخرى في العالم غير الغربي عززت علاقات الاقتصاد والطاقة مع موسكو منذ بدء الحرب.
وقد مكّنت هذه العلاقات روسيا من تجاوز ضغط العقوبات الغربية والإفلات من الانهيار الاقتصادي، وهذا بدوره مكّنها من الحفاظ على تمويلها للجهود الحربية ومواصلة الضغط العسكري رغم نكساتها. فالنظرة الأعمق إلى الموقف الدولي تكشف أن الطرح القائل بأن بوتين معزولٌ يظلُّ شيئاً من التحيُّز الغربي، كما تصف ذلك صحيفة Washington Post الأمريكية.
لكن ليس بإمكان موسكو أن تتعامل مع هذه العلاقات باعتبارها مسلمات، والعلاقات الاقتصادية والسياسية المستمرة بين روسيا ودول مثل الصين والهند لا تعادل الدعم الكامل للهجوم الروسي.
وصحيح أن وسائل الإعلام الحكومية الصينية تظل موالية لروسيا، ولم تعلن البلاد رسمياً انحيازها إلى روسيا، أما الهند فالتزمت الحياد المدروس. وفي الوقت نفسه، أعلنت تركيا معارضتها للحرب.
لكن هذه الدول لها مصلحة عملية في الحفاظ على وارداتها من الطاقة الروسية، وخاصة في حالة الصين، في تحدي النظام الذي تقوده الولايات المتحدة والغرب. وإذا صعّدت موسكو الحرب تصعيداً خطيراً العام الجديد- مثل الاستمرار في التلويح والتهديد باستخدام أسلحة كيميائية أو نووية- فمن المرجح أن تعيد هذه الدول النظر في مستوى تعاونها الاقتصادي والسياسي مع روسيا. وشرايين الحياة التي يعتمد عليها الاقتصاد الروسي من العوامل المُقيِّدة أيضاً لما قد يكون تصعيداً كارثياً على الأغلب.
العامل الثالث.. الوضع السياسي الداخلي
أما العامل الثالث فيتعلق بالوضع السياسي الداخلي في كلا البلدين، إذ إنه حتى الآن، حتى تحت ضغط عملية التجنيد التي لم تلق تأييداً كبيراً، أثبت بوتين قدرته على الصمود في وجه المعارضة للحرب على الجبهة الداخلية، من خلال حملات القمع والقوانين التقييدية، والسيطرة على مجلس الأمن الروسي وصناع القرار الرئيسيين الآخرين. وبالمثل، أثبت زيلينسكي قدرته لا على البقاء في السلطة فقط وإنما في الحصول على تفويض قوي أيضاً.
ولكن إذا لم يتمكن أي من الطرفين من تحقيق نصر عسكري كامل، الذي يبدو مستبعداً في هذه المرحلة، فيرجح أن تتزايد الخسائر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للحرب بمرور الوقت، وقد يصبح المسار الدبلوماسي أكثر إغراءً.
على أن الكرملين مستمر في صب جهوده في الحرب، والشعب الأوكراني يرغب في الفوز بهذه الحرب، بعد أن أظهر استطلاع للرأي أجرته مجموعة التصنيف Rating Group مؤخراً أن 85% من الأوكرانيين يؤيدون استمرار الحرب حتى استعادة جميع الأراضي، بما فيها شبه جزيرة القرم وأجزاء دونباس التي خسرتها أوكرانيا عام 2014.
الخلاصة هنا هي أن الحرب الأوكرانية في طريقها لتمر بعام صعب آخر، في ظل تقلبات وانعطافات غير متوقعة، سواء أكانت في شكل مزيد من التصعيد العسكري، أو تحولات سياسية، أو تقدم دبلوماسي بوساطة دولية.
وجميع الحروب تنتهي حتماً في نهاية المطاف، إما بنصر عسكري حاسم أو حل دبلوماسي بين طرفيها المنهكين، لكن استمرار إصرار بوتين، ودعم الغرب لمقاومة أوكرانيا حكومةً وشعباً، يعني أن عام 2023 قد لا يشهد إنهاكاً ولا نصراً.