هل يؤدي الانسحاب الأمريكي المهين من أفغانستان إلى نهاية الإمبراطورية الأمريكية على غرار ما حدث للاتحاد السوفييتي المنحل؟ بات هذا السؤال يشغل كثيراً من أفراد النخب الأمريكية.
وفي هذا السياق يشرح جون أندرسون في مقال نشر في مجلة The New Yorker الأمريكية "كيف تموت الإمبراطوريات؟"؛ إذ يقول يبدو عادةً أنّ الأمور تبدأ بتزايد مشاعر الاضمحلال، ثم يقع حدثٌ كبير، حدثٌ واحد يُمثّل القشة التي تقصم ظهر البعير. فبعد الحرب العالمية الثانية مثلاً، كانت بريطانيا العظمى مفلسةً مع إمبراطوريةٍ مُحطمة، لكنّها نجحت بفضل قرضٍ من الحكومة الأمريكية وضرورات الحرب الباردة التي سمحت لها أن تحتفظ بمظهرها الخارجي كأحد الأطراف الفاعلة دولياً.
وظلت الأمور على ما هي عليه حتى أزمة قناة السويس عام 1956، حين تعرّضت بريطانيا لضغوط الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والأمم المتحدة حتى تسحب قواتها من مصر، التي احتلتها إلى جانب إسرائيل وفرنسا عقب تأميم جمال عبدالناصر لقناة السويس. وحينها اتضح أنّ أيام بريطانيا الاستعمارية قد ولّت. وسرعان ما بدأ فيضان إنهاء الاستعمار.
هل تلقى الإمبراطورية الأمريكية مصير الاتحاد السوفييتي؟
وحين سحب الاتحاد السوفييتي قواته من أفغانستان، في فبراير/شباط عام 1989، بعد محاولات فاشلة لتهدئة البلاد على مدار تسع سنوات فعلوا ذلك باحتفالٍ تم تجهيزه بعناية ليبعث برسائل فحواها الكرامة والوقار.
ورغم كل الحديث عن الواجب والمسؤولية الدولية سنجد أن أفغانستان التي تركها السوفييت صارت أرضاً تعمُّها المآسي. حيث قُتِل نحو مليوني مدني في الحرب من سكانها البالغ عددهم 12 مليوناً، بينما فرّ أكثر من خمسة ملايين خارج البلاد، ونزح مليونان آخران في الداخل. وتحوّلت العديد من مدن البلاد إلى أطلال، بينما تعرّضت نصف القرى الريفية للدمار.
ومن الناحية الرسمية، لم تفقد القوات السوفييتية سوى 15 ألف جندي تقريباً في الحرب -رغم أن الرقم الحقيقي ربما يكون أعلى بكثير- بالإضافة إلى نحو 50 ألف جنديٍ مصاب. لكن الأصعب كان خسارتهم لمئات الطائرات، والدبابات، والمدافع. علاوةً على مليارات الدولارات التي فقدها الاقتصاد السوفييتي المضغوط من أجل تغطية نفقات الحرب. ورغم محاولات الكرملين لتلميع الحرب، فقد أدرك المواطن السوفييتي العادي أنّ التدخل في أفغانستان كان قراراً باهظ التكلفة.
وبعد 18 شهراً فقط من الانسحاب السوفييتي من أفغانستان حاولت جماعةٌ من الشيوعيين المتشددين تنفيذ انقلابٍ ضد رئيس الوزراء الإصلاحي ميخائيل غورباتشوف. لكنهم كانوا مخطئين في تقدير مدى قوتهم، والدعم الشعبي الذي سيحصلون عليه. لذا فشل انقلابهم سريعاً بسبب التظاهرات العامة ضدهم، وأعقب ذلك انهيار الاتحاد السوفييتي نفسه. وبحلول ذلك الوقت، كان الكثيرون قد تآمروا عقب الانسحاب السوفييتي من أفغانستان لإضعاف الإمبراطورية القوية من الداخل.
ورغم التشابه المهين بين تلك الأحداث والأحداث التي مرّت بها الولايات المتحدة مؤخراً، فإن المستقبل هو الذي سيثبت لنا مدى صحة المثل القائل إنّ أفغانستان هي مقبرة الإمبراطوريات بالفعل، في حال سقطت الإمبراطورية الأمريكية كما حدث مع الاتحاد السوفييتي، حسب المقال المنشور في مجلة The New Yorker.
وتعتقد الكاتبة روبن رايت أن ما حدث في أفغانستان يشكل نهاية الإمبراطورية الأمريكية، حيث كتبت في الـ15 من أغسطس/آب: "إنّ انسحاب أمريكا الكبير من أفغانستان هو مخزٍ بقدر انسحاب الاتحاد السوفييتي عام 1989 -إن لم يكن أكثر خزياً-، وهو الحدث الذي أسهم في سقوط تلك الإمبراطورية وحكمها الشيوعي… حيث انسحبت كل قوةٍ عظمى منهما في صورة الخاسر الذي يجر أذيال الهزيمة، تاركةً وراءها الفوضى ليس إلا".
يقول كاتب المقال "حين سألت نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق جيمس كلاد عن رأيه في الأمر، بعث لي برسالةٍ بريد إلكتروني قال فيها: "إنّها ضربةٌ مُوجعة، ولكن هل هي (نهاية الإمبراطورية الأمريكية)؟ ليس الآن، وربما ليس لفترةٍ طويلة. ومع ذلك فقد أضرت هذه الهزيمة الفاضحة بالهيبة الأمريكية، وضربتنا على وجوهنا بمضربٍ جيوسياسي. ولكن هل هذه ضربةٌ قاضية؟ إذا نظرنا للعالم الأوسع، سنجد أن أمريكا لا تزال محتفظةً بوظيفتها الموازنة للقوى في الخارج. وباستثناء القليل من الصحافة المتحمسة، سنجد أننا لم نترك أي أفضليةٍ نهائية لصالح خصمنا الجيوسياسي الرئيسي: الصين".
صحيحٌ أنّ الولايات المتحدة لا تزال محتفظةً ببراعتها العسكرية وقوتها الاقتصادية في الوقت الحالي. ولكنها بدت عاجزةً بشكلٍ متزايد عن تسخير أي منهما لخدمة مصالحها على مدار العقدين الماضيين.
وبدلاً من تعزيز هيمنتها عن طريق استغلال مصادر قوتها بحكمة كانت الولايات المتحدة تُبدّد جهودها بشكلٍ متكرر لتنتقص من هالتها كدولةٍ لا تقهر ومن مكانتها في عيون الدول الأخرى. حيث انتشر الإرهاب في جميع أنحاء الكوكب بسبب الحرب العالمية المبالغ فيها على الإرهاب، التي شملت غزو جورج بوش الابن للعراق بغرض العثور على أسلحة الدمار الشامل التي لا وجود لها، وقرار باراك أوباما بالتدخل في ليبيا، واتفاق دونالد ترامب مع طالبان عام 2020 على سحب القوات الأمريكية من أفغانستان. وربما لم يعُد تنظيم القاعدة قوياً كما كان وقت أحداث الـ11 من سبتمبر/أيلول، لكنه لا يزال موجوداً على الأرض وله فرعٌ في شمال إفريقيا، كما يمتلك تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فرعاً هناك وفي موزمبيق وأفغانستان أيضاً. وها قد عادت حركة طالبان إلى السلطة، لتعود بنا إلى مبتدأ الحديث قبل 20 عاماً مضت.
ولم تعد لديها رؤية كما كان الأمر في الحرب الباردة
وعلّق روري ستيوارت، الوزير الحكومي البريطاني الأسبق في حكومة تيريزا ماي، قائلاً إنّه راقب الأحداث المتكشفة داخل أفغانستان "والرعب يملؤه". ثم أضاف: "طوال فترة الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة تمتلك رؤيةً عالمية شبه دائمة. وتأتي الإدارات وتذهب، لكن تلك الرؤية العالمية لم تتغيّر كثيراً. ثم جاءت أحداث الـ11 من سبتمبر/أيلول، وقرّرنا نحن -حلفاء الولايات المتحدة- مجاراة النظريات الجديدة التي خرجت علينا بها أمريكا لتفسير ردها على التهديدات الإرهابية، سواءً في أفغانستان أو غيرها من الدول. لكن الرؤية العالمية صارت تفتقر تماماً إلى الاستمرارية منذ ذلك الحين، وصارت نظرة الولايات المتحدة للعالم الآن تختلف تماماً عن نظرتها في عام 2006 مثلاً. حيث تحوّلت أفغانستان من محور الكون إلى بلد يُخبروننا بأنّه لم يعُد يُمثّل تهديداً على الإطلاق. ما يعني أنّ كافة النظريات السابقة لم يعد لها أي معنى.
ولا شك أنّه من المزعج بشدة رؤية هذا الميل للانعزال عن الشؤون الخارجية بشكلٍ مفاجئ لدرجةٍ دمّرت كل شيءٍ حاربنا من أجله معاً طيلة 20 عاماً"، حسب تعبيره.
التذرع بمواجهة التوسع الصيني هو تبرير للانعزالية الأمريكية
وشكك ستيوارت في تأكيدات جو بايدن بأنّ الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة لم تعُد قائمةً في دولٍ مثل أفغانستان، بل صارت تكمُن في التصدي للتوسع الصيني. حيث قال ستيوارت: "لو كان هذا التأكيد صحيحاً، لصار من المنطقي في المواجهة الأمريكية ضد الصين أن يقول الأمريكيون: حسناً، سوف نُبرهن على قيمنا من خلال تواجدنا في كافة أنحاء العالم، تماماً كما فعلنا في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي. وإحدى طرق تحقيق ذلك ستكون بالحفاظ على وجودك في الشرق الأوسط وغيره من المناطق، وذلك لأنّ الانسحاب سيأتي بنتائج عكسية. وفي النهاية، أعتقد أنّ كل هذا الحديث عن التركيز مع الصين هو مجرد عذرٍ في الواقع للانعزالية الأمريكية".
وبعودتنا إلى السؤال الملح: هل تُمثّل عودة طالبان في أفغانستان نهايةً للعصر الأمريكي أو على الأقل الإمبراطورية الأمريكية؟ على أعتاب ما يبدو أنّه قرارٌ كارثي من بايدن أن يلتزم باتفاق سحب القوات الأمريكية الذي أقره سلفه، يمكننا بكل تأكيد القول إنّ الصورة الدولية للولايات المتحدة قد تضرّرت.
ويبدو من اللائق طرح السؤال حول ما إذا كان بمقدور الولايات المتحدة فرض سلطتها الأخلاقية أكثر على المستوى الدولي، بعد أن سلّمت أفغانستان لطالبان على طبقٍ من ذهب. لكن لم يتضح بعد ما إذا كان الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يمثل حلقةً في سلسلةٍ من الانعزال على الذات، أم ستحاول الولايات المتحدة سريعاً إعادة فرض نفسها في مكانٍ آخر لتثبت للعالم أنّها لا تزال قوية. وفي الوقت الحالي يبدو وكأن العصر الأمريكي لا يزال مستمراً، وإن لم يكُن بنفس الزخم