ثلاثة حوادث قطارات هزت مصر في الأشهر الثلاثة الماضية أوقعت عشرات الضحايا، ومئات الجرحى في وقت تقف فيه البلاد ومؤسستها العسكرية على حافة الحرب في إثيوبيا للحفاظ على الحقوق المائية التاريخية التي قد تتأثر بشكل جذري في حال استمرار الخطط والبرامج الإثيوبية في تنفيذ المرحلة الثانية من ملء خزانات سد النهضة، الأمر الذي قد يهدد حياة ما يقرب من 40 مليونا في دولتي الممر والمصب، أي مصر والسودان.
الربط بين حوادث القطارات وسد النهضة وتبعاته، ربط استراتيجي، لأن تأمين الجبهة الداخلية المصرية، وتصليب ثقتها بمؤسساتها المدنية والعسكرية، أرضية ضرورية، بل حتمية، في حال تقرر تعبئة وتحشيد مئة مليون مصري خلف جيشهم ودولتهم إذا ما تم اللجوء إلى خيار الحرب لدرء هذا الخطر في نهاية المطاف باعتباره آخر الحلول وأخطرها.
***
تناسل هذه الحوادث الصادمة، وفي وقت تفشل فيه جميع المفاوضات السياسية للوصول إلى حل مرض للأطراف الثلاثة المعنية بأزمة السد الراهنة، تجعلنا لا نستبعد مطلقا نظرية المؤامرة، ووجود أصابع خفية، تعمل على زعزعة أمن مصر واستقرارها، وإضعاف جبهتها الداخلية، وإثارة حالة من البلبلة، والفوضى لإظهارها في مظهر الضعيف، وبما يجعلها تخضع في النهاية للضغوط الهائلة الممارسة عليها حاليا من قوى عظمى إقليمية ودولية للتخلي عن حقوقها المائية التاريخية التي تعود جذورها لملايين السنين.
نحن هنا، وبحديثنا عن وجود بعض المؤشرات التي توحي باحتمال وجود جهات تقف خلف هذه الأحداث الكارثية بشكل غير مباشر، لا يعني أننا نقلل من أهمية الأسباب الجوهرية الأكثر ترجيحا التي تكمن خلف معظم، إن لم يكن جميع، هذه الحوادث، وأبرزها الإهمال، وسوء الإدارة، وغياب الكفاءات، وضعف الصيانة، وحالة الهرم التي تعيشها منظومة السكك الحديدية المصرية التي تعتبر ثاني أقدم خطوط حديدية في العالم بعد بريطانيا، لأن مصر مستهدفة هذه الأيام أكثر من أي وقت مضى، ولا نستبعد وجود جهات تريد إشغالها في أزمات داخلية، لحرف أنظارها عن التحديات الخارجية المتعاظمة المحيطة بها من الجهات الأربع.
في ذروة الحرب العالمية الثانية، وتصاعد المقاومة الفرنسية للخطر الألماني النازي، جرى اعتقال جاسوس كان يعمل في قلب قصر الحكم بمصلحة النازيين، وعندما سأله المحققون عن الخدمات التي قدمها للنازيين، قال إنه لم يقدم لهم أي معلومات سرية تضر بأمن الدولة، وكانت مهمته الأبرز أن يسهل تعيين غير الإكفاء في المناصب العليا والمفصلية في الدولة، مما قد يؤدي إلى انهيارها.
علينا أن نتذكر أن العراق شهد أزمات داخلية مماثلة قبل الحرب مع إيران، وجرى فرض حصار خانق عليه بعد ثماني سنوات من هذه الحرب مرفوقة بتحريض من السفيرة الأمريكية أبريل غلاسبي في بغداد لغزو الكويت عام 1990 للخروج من أزماته الاقتصادية، ولا ننسى مؤامرات بعض الدول العربية بإغراق الأسواق العالمية بفائض نفطي أدى إلى تخفيض الأسعار دون العشرة دولارات للبرميل، وهناك أمثلة عديدة أخرى مماثلة عن التدخلات الأمريكية والغربية الخفية، والعلنية لتدمير الأمة العربية، ودول مركزها، لا يتسع المجال لسردها.
***
لا نريد أن نتدخل في الشأن الداخلي المصري، أو الجلوس في مقعد “الخبراء” الناصحين، واقتراح الحلول، وإصدار الفتاوى، فمصر طافحةٌ بالكفاءات الفنية والإدارية ولكننا لا يمكن أن نتجاهل، ومن موقع المراقب، حالات تواطؤ من قبل بعض الحكومات العربية مع “العدو” الإثيوبي الجديد، وتهربها من الوقوف في الخندق المصري، من خلال لجوئها إلى عرض الوساطات، لكسب الوقت، ليس حبا أو حرصا على مصر، وإنما لحماية استثماراتها في إثيوبيا وسد النهضة تحديدا، فإذا كانت الوساطة الأمريكية، وجميع الوساطات الإفريقية قد فشلت، فهل تنجح وساطات هؤلاء المغشوشة؟
مصر وقفت في خندق جميع القضايا العربية دون تردد، وبغض النظر عمن يحكمها، وخاضت أربع حروب، وقدمت مئات الآلاف من الشهداء والجرحى، وتستحق من جميع العرب الوقوف معها في مواجهة هذا التحدي الوجودي الذي يريد تجويع شعبها وتعطيشه، ليس كرد الجميل، وإنما من منطلق الواجب العروبي والقومي والإسلامي، خاصة أن إسرائيل هي أكبر المتآمرين على مصر، وأمنها واستقرارها، وتريد تدمير جيشها بعد أن دمرت بمؤامراتها وحروب حليفتها أمريكا في المنطقة الجيشين العراقي والليبي، وأنهكت السوري، وورطت اليمني في حروب استنزاف دموية، ولم يبق للأمة إلا الجيش المصري.
حمى الله مصر وشعبها وجيشها ونيلها.