لم يكن اختيار الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن فريق السياسة الخارجية والأمن القومي الذي يعتزم تعيينه مفاجئاً خصوصاً ترشيحه اسم أنتوني بلينكن لمنصب وزير الخارجية بعد سنوات طويلة من خبرته المشتركة مع بايدن في السياسة الخارجية، فما هي مواقف وتصورات بلينكن لسياسة الولايات المتحدة الخارجية خلال السنوات المقبلة لا سيما في الشرق الأوسط؟ وما شكل التغييرات المحتملة؟ وما طبيعة وأدوار بقية فريق الأمن القومي الذين اختارهم الأخير؟
قبل أربع سنوات، اختار الرئيس دونالد ترمب الرئيس التنفيذي لشركة إكسون موبيل، ريكس تيلرسون، وزيراً للخارجية بعد مقابلته مرة واحدة فقط، ليكون بذلك الرئيس الوحيد في التاريخ الأميركي الذي يمنح رئاسة الدبلوماسية الأميركية إلى شخص لا يمتلك خبرة سابقة في الحكم أو أي خبرة عسكرية على عكس العُرف الذي سارت عليه المؤسسة السياسية في واشنطن.
لكن بايدن الذي يمضي قدماً نحو تشكيل حكومته الجديدة بعد سماح ترمب بالعملية الانتقالية للمرة الأولى، أعلن بالإضافة إلى ترشيح بلينكن، خططه لترشيح جيك سوليفان مستشاراً للأمن القومي، وأفريل هينز مديرة للاستخبارات الوطنية والتي ستصبح أول امرأة تترأس مجتمع الاستخبارات الأميركي، وجون كيري مبعوثاً رئاسياً خاصاً للمناخ وعضواً في مجلس الأمن القومي، وليندا توماس غرينفيلد للعمل كسفيرة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، وأليساندرو مايوركاس وزيراً للأمن الداخلي والذي سيصبح أول من يترأس هذه الوزارة من أصول لاتينية.
نقيض فريق ترمب
جميع هؤلاء شاركوا في إدارة أوباما، وهم من ناحية الأسلوب والتجربة نقيض الذين وظفهم ترمب في الأدوار نفسها، فقد واجهت تيليرسون مشكلات كثيرة، ولم يكن يعبر بصدق عن توجهات ترمب ومواقفه، وكذلك العديد من مستشاري الأمن القومي الذين اصطدموا مع ترمب في مراحل مختلفة من سنوات حكمه.
أما بلينكن فهو سليل عائلة دبلوماسية ومهذب هادئ الطباع، يمتلك خبرة واسعة في السياسة الخارجية برزت في تسعينات القرن الماضي حين عمل مع الرئيس بيل كلينتون، ثم أصبح بلينكن مدير فريق عمل لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ عندما كان بايدن رئيساً لها، ثم مستشاره للأمن القومي حين أصبح نائباً للرئيس، وبعد ذلك، بات بلينكن نائب مستشار الأمن القومي للرئيس باراك أوباما، والرجل الثاني لجون كيري في وزارة الخارجية.
بلينكن وسوليفان
فضلاً عن خبرته الطويلة في السياسة الخارجية، كان بلينكن ملاصقاً لبايدن خلال حملته الانتخابية هذا العام، وساعد في تأسيس مؤسسته بعد مغادرته البيت الأبيض، ولهذا لن يشك أحد في أن بلينكن سوف يتحدث باسم بايدن عندما يسافر حول العالم، الأمر الذي كان عنصراً رئيساً في نجاح وزراء خارجية سابقين، مثل جيمس بيكر في عهد الرئيس جورج بوش الأب أو كونداليزا رايس في عهد الرئيس جورج دبليو بوش.
بالطريقة نفسها كان سوليفان أيضاً عنصراً أساسياً إلى جانب بايدن خلال الحملة الانتخابية، وأخذ زمام المبادرة في صياغة خططه المعروفة باسم "إعادة البناء بشكل أفضل" للتعافي من الأزمات الصحية والاقتصادية الناجمة عن كورونا. وقبل ذلك، عمل سوليفان كمستشار للأمن القومي لبايدن حينما كان نائباً للرئيس، وشغل كذلك منصب مدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية في عهد هيلاري كلينتون، كما كان أحد كبار مستشاري السياسة لحملة كلينتون لعام 2016.
ومثلما كان بلينكن مختلفاً عن تيريلسون، وسوليفان عن مايكل فلين الذي عينه ترمب، ولم يكمل شهراً في منصبه بعدما اعترف بالكذب على مكتب التحقيقات الفيدرالي حول محادثاته مع الروس، فإن ليندا توماس غرينفيلد التي رشحها بايدن، ستكون مختلفة عن نيكي هايلي كسفيرة أميركية في الأمم المتحدة، إذ إن هايلي لم يكن لها أي خبرة في السياسة الخارجية بينما غرينفيلد ظلت سنوات على رأس الدبلوماسية الأميركية لأفريقيا في عهد الرئيس أوباما، كمساعدة وزير الخارجية وتوجت بها 35 عاماً في السلك الدبلوماسي قبل أن تعتزل عام 2017.
لكن مع هذه الخبرات الطويلة في السياسة الخارجية لفريق بايدن الجديد، ما الذي تنبئ به أفكار هذا الفريق وسياساته؟
يأمل بايدن في التراجع عن سياسة ترمب الخارجية، فقد وعد بالانضمام إلى اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ، والتعاون العالمي لمواجهة جائحة كورونا والتراجع عن انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية والعودة للانضمام إلى الاتفاق النووي الإيراني، وتعهد بتدعيم التحالفات العالمية، بدءاً من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لاتخاذ موقف أكثر تشدداً تجاه روسيا وإعادة حقوق الإنسان كأولوية في السياسة الخارجية الأميركية.
وسيواجه بلينكن مهمة اتّباع نهج أكثر صرامة وتصادماً مع قيادات دولية تثير التوتر في العالم مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بسبب سياساته التوسعية في شرق المتوسط ومناطق أخرى مجاورة لتركيا، والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون الذي يواصل تجاربه الصاروخية والنووية متحدياً المجتمع الدولي، فضلاً عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
يشير زملاء في الوسط الدبلوماسي الأميركي إلى أن بلينكن يمتلك ذهنية مشتركة مع بايدن في السياسة الخارجية تختلط فيها الدبلوماسية بإجراءات التدخل العسكري، وهو أمر يريد الرئيس المنتخب إعطاء أولوية له في المكتب البيضاوي، على سبيل المثال، فإن بلينكن كان أكثر تشدداً في ضرورة مواجهة روسيا، التي يعتبرها عدواً، وكان مهندس العقوبات التي فُرضت عليها للرد بصرامة على تعديات بوتين على القرم عام 2014.
الصين وإيران
بالنسبة للصين، من المتوقع أن يتخذ الرئيس المنتخب ووزير خارجيته بلينكن موقفاً أقوى ضد تصرفات بكين في ملف حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية ومواقفها العسكرية لا سيما في شرق آسيا، وكذلك في حماية الولايات المتحدة من الهجمات الإلكترونية وسرقة الملكية الفكرية، غير أن إدارته سوف تحتاج أيضاً إلى الانخراط في التجارة مع بكين والعالم والتعاون في مكافحة وباء كورونا وفي مجال البيئة.
بالنسبة إلى إيران، فقد لعب بلينكن الذي تخرّج في جامعة هارفارد، دوراً رائداً في تمرير اتفاق إيران النووي عام 2015 في الكونغرس، وقال طوال حملة بايدن إن قرار ترمب الانسحاب من الصفقة عام 2018 وضع إسرائيل في خطر أكبر من جانب إيران.
في مقابلة مع موقع "جيويش إنسايدر" الشهر الماضي، قال إنه حتى إذا تم تجديد الصفقة بشكل ما وعُلّقت العقوبات في الجانب النووي، فسوف تواصل الولايات المتحدة العقوبات غير النووية التي فرضها ترمب كنوع من التحوط القوي ضد سوء السلوك الإيراني في مناطق أخرى في الشرق الأوسط والعالم، فضلاً عن أنه قد يكون من الصعب إنهاء هذه العقوبات من الناحية السياسية والفنية.
ومثلما كان بلينكن منخرطاً في الملف الإيراني، ينطبق الأمر على جيك سوليفان الذي شغل منصب كبير المفاوضين في المحادثات النووية مع إيران خلال إدارة أوباما ولعب دوراً رئيساً تجاه آسيا.
دعم إسرائيل
يتمتع بلينكن مثل الرئيس المنتخب جو بايدن بعلاقات وثيقة مع دولة إسرائيل تشكلت عبر عقود من الدعم القوي لها، وسلط بلينكن المولود في نيويورك لأبوين يهوديين، الضوء على دعم بايدن تل أبيب، مؤكداً بشكل قاطع خلال اجتماع مع منظمة داخل الحزب الديمقراطي تسعى لدعم تل أبيب، أن بايدن لن يربط المساعدة العسكرية بأي قرارات سياسية تتخذها الأخيرة.
بين سياسة ترمب اليمينية التي دعمت إسرائيل بشكل غير مسبوق، وبين أقلية من المشرعين الديمقراطيين والتقدميين الراغبين في أن تكون مساعدة تل أبيب مشروطة بخيارات سياسية معينة، يتخذ بلينكن منهجاً وسطياً، فقد أوضح إن إدارة بايدن ستُبقي السفارة الأميركية في القدس وستدعمها في الأمم المتحدة، وهو ما يتماشى مع موقف بايدن الذي كتب في مايو (أيار) الماضي أنه يرفض بشدة حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، ومع ذلك، فقد سبق أن وبّخ بلينكن، رئيس الوزراء بنيامين نيتنياهو على توسيع المستوطنات لكن بلغة دبلوماسية مهذبة، مفضلاً أن تظل الخلافات السياسية بين البلدين خلف الأبواب المغلقة ولا تخرج إلى العلن.
كما سبق وانتقد بلينكن قرار إدارة ترمب الأحادي بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وقال لتلفزيون "فرنسا 24" إن القدس عاصمة إسرائيل وستظل دائماً، لكن تفترض أيضاً أن تكون جزءاً من أي تفاوض نحو تسوية نهائية.
نزعة التدخل العسكري
مع ذلك، فإن فريق بايدن قد لا يحمل بالضرورة وجهة نظر متطابقة، فعلى الرغم من أن بلينكن يوصف بأن لديه وجهة نظر وسطية للعالم، إلا أنه كان يؤيد أحياناً مواقف التدخل العسكري الأميركي، واختلف عن موقف بايدن ودعم العمل العسكري في ليبيا على سبيل المثال، وخلال إدارة أوباما، دعا إلى عمل أميركي في سوريا.
نظرة بلينكن
لعل هذه النزعة عرّضت بلينكن لانتقادات مثل التي وجهها إليه الكاتب اليساري روبرت رايت الذي اعتبر أنه يفضل في كثير من الأحيان العمل العسكري على الدبلوماسية والسياسات التوسعية التي تستفز روسيا والصين.
وأشار ايضاً إلى أن بلينكن شارك في تأسيس شركة سياسة استراتيجية مع ميشيل فلورنوي، التي تعتبر المرشحة الأبرز لشغل منصب وزيرة الدفاع في إدارة بايدن لتكون المرأة الأولى التي تقود البنتاغون في التاريخ.
يبدو أن نظرة بلينكن للعالم ، تشكلت عبر زوج والدته، صموئيل بيسار، الذي نجا من المحرقة ومعسكرات الاعتقال النازية. معبراً في حديث إلى صحيفة "واشنطن بوست" عام 2013 أن قلقه بشأن الغازات السامة في سوريا، يعود إلى ما استخدمه النازي للتخلص من عائلتي بأكملها.
الفشل في سوريا
في مايو (أيار) الماضي، عبّر بلينكن في حديث إلى شبكة "سي بي إس" عن أسفه على فشل إدارة أوباما في سوريا، وقال إن ترمب جعل الوضع المروّع أسوأ عبر سحب القوات الأميركية من هناك ما أهدر الإمكانات الأميركية، كما اعترف بفشل إدارتا أوباما وترمب في منع الخسائر الفادحة في الأرواح، ومنع النزوح الجماعي للأهالي داخلياً في سوريا، وفي الحيلولة دون هجرتهم خارجياً كلاجئين، الأمر الذي اعتبر أنه سيؤثر فيه مدى الحياة.
كان بلينكن مناصراً رئيساً خلال إدارة أوباما للسماح لمزيد من اللاجئين بدخول الولايات المتحدة، وعندما غادر وزارة الخارجية عام 2017، كان الحد الأقصى لاستقبال الجدد في الولايات المتحدة 110 آلاف، لكن ترمب خفض العدد إلى 15 ألفاً، بينما وعد بايدن بزيادته إلى 125 ألفاً حينما يتولى مقاليد البيت الأبيض بعد 20 يناير (كانون الثاني) عام