وإن واصل ترامب خلال ما تبقى من فترته الرئاسية التشبث بالسلطة، واستمر في إنكاره لنتيجة الانتخابات، ومهما خيّلت له نرجسيته المغلفة بالبارانويا أنه شامخ لا يمكن هزيمته، إلا أنه في نهاية الأمر سيغادر البيت الأبيض. لكنه أيضاً، لن يكون صاغراً بأي حال من الأحوال كما يعتقد الكثيرون. فتلكؤه حتى بعد أن تبين لمن حوله على الأقل أن نتيجة الانتخابات قد حُسمت، قد لا يعكس الواقع الحقيقي لما يجري بالفعل، فمن تحليل شخصيته وماضيه فإنه قد عكف بالفعل على الفصل التالي من حياته.
لطالما طغت صبغة النرجسية المفرطة على شخصية دونالد ترامب، وتلك الذات قد تضخمت بشكل حتى أكبر بعد خوضه الانتخابات مرتين، بل وتعظمت إلى درجة حتى أعلى من ذلك نتيجةً للقوة والسلطة العظيمة التي تنشقها منذ اعتلائه سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية. وكغيره من الشخصيات النرجسية عبر التاريخ، ومع تعاظم الذات تزداد الصعوبة بمكان لمثل تلك الشخصيات تقبل فكرة أخذ خطوات للوراء، أو بمعنى آخر التعايش مع منسوب أقل من السلطة والقوة والأضواء.
ربما يكون دونالد ترامب أكثر رئيس حكم الولايات تفرداً عبر التاريخ، إلا أن ذلك لا يدحض حقيقة أنه بالفعل حقق مكاسب كبيرة طوال فترة حكمه وحتى في انتخاباته الأخيرة، فقد تمكن من توظيف شعبويته النزقة لتحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة خلال فترته الرئاسية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الاستهانة بعدد الأصوات التي تحصل عليها في انتخاباته الأخيرة وسيطرته شبه المطلقة على الشارع في الحزب الجمهوري.
شخصية مثله لن تتنازل عن كل الزخم الشعبوي والمكاسب الجماهيرية التي حققها عبر السنوات، ولن تسمح له بأن يغادر الساحة بدون عودة مثل ما جرت عليه العادة عند انتهاء ولاية كل من سبقه من الرؤساء. وترامب ودائرته المقربة أمامهم الآن عدة سيناريوهات لمستقبله، وجميعها محتملة -وإن بتفاوت- في الأيام والشهور والسنوات القادمة. من أكثرها احتمالاً ربما عودته لخوض رحى الانتخابات الرئاسية القادمة، اعتماداً على المكاسب المتحققة سابقاً والزخم الهائل الذي تولد من رحم شعبويته في الحزب الجمهوري. ولكن ذلك طبعاً مشروط بأن يتمكن من استمالة الداعمين وتحصيل دعم كافٍ للقيام بجولات انتخابية وقودها شعبويته المعتادة، وليس سراً أنه في وقتها سيعتمد على أن جو بايدن قد بلغ من العمر أرذله، والذي قد يزيد صعوبة مهمة حصوله على فترة ثانية.
أما المسار الثاني المتوقع، فهو بأن يقوم هو ودائرته المقربة بالبناء على سطوته غير المسبوقة على الحزب الجمهوري وكياناته الداعمة وأذرعه الإعلامية، ليلعب دور الورقة الرابحة في الانتخابات الرئاسية القادمة، ويستغل تلك القوة الجارفة في الوقوف خلف مرشح الحزب الجمهوري القادم، والذي سيكون من اختياره وتحت سيطرته على الأغلب، بل وحتى قد يكون أحد أولاده أو صهره، ليوظف نفوذه اللامحدود في الحزب الجمهوري لإطالة أمد وترسيخ ما يعتبره إرثه الأسطوري الذي سيتمثل بالمرشح الذي سيواصل المسيرة التي بدأها هو.
مسار آخر ممكن وإن كانت احتماليته أقل نسبياً عما سبق، إلا أنه وارد بالرغم من أنه لم يحدث من قبل عبر التاريخ. وربما يكون أخطر المسارات بأن تأخذه نشوة السبعين مليون صوت التي حققها في الانتخابات الأخيرة، بالإضافة إلى خلافه مع بعض رموز الحزب الجمهوري إلى الذهاب ربما لتأسيس كيان جديد ينضوي تحته كثير من تلك الجماهير التي جرت خلفه في تجمعاته الانتخابية، وما انضوى تحتها مما يشبه الميليشيات العرقية التي تجنح نحو ما هو يمين أكثر حتى من الحزب الجمهوري لدرجة التطرف، والذين داعبت مشاعرهم استعراضاته المستمرة وتطاوله على جميع الأعراف وأحيان كثيرة بنود الدستور الأمريكي ليصطفوا خلفه بطريقة عمياء.
في نهاية الأمر، فإن مغادرة البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني القادم لن تكون نهاية ترامب على الإطلاق، بل وعلى العكس ما يتوقع الكثيرون فإنها ستكون إعادة ولادة لمستقبل سيحمل في طياته ربما المجهول وكثيراً من الظلامية لكل من لا يتفقون وكل ما يمثله من تطرف وشعبوية غوغائية. نرجسيته تصور له أنه قائد لتلك الملايين التي تصرخ باسمه بدون تفكير خلال تجمعاته الانتخابية، وكأنه بطل أسطوري لم يذكر التاريخ مثله، بالإضافة إلى اعتقاده بأن التاريخ حتى الآن لم يوفِّه حقه بعد!