مثلما شغلت الانتخابات الأمريكية التي انطلقت مطلع نوفمبر العالم بسبب أهمية الولايات المتحدة ودورها السياسي والاقتصادي والعسكري كقوة عظمى، شغلت اختيارات الرئيس القادم جو بايدن لطاقمه المتابعين والمحلّلين داخل الولايات المتحدة وخارجها. حيث سيقع على عاتق وزراء ومسؤولي الإدارة الجديدة مسؤولية إيقاف عجلة الخراب السياسي والاقتصادي والشرخ الاجتماعي الذي شهدَته البلاد في السنوات الأربع الماضية. كما سيقع على مسؤولية بعضهم إصلاح الشرخ في علاقات واشنطن مع حلفائها الأوروبيين والآسيويين والعودة لاتفاقات سابقة ألغاها ترامب.
يبدو من النظرة الأولية لشخصيات من تم اختيارهم لتولي وظائف قيادية أن معظمهم له خبرة سابقة مع إدارة أوباما في الملفات التي تم تكليفهم بها، الأمر الذي دعا بايدن لنفي أن تكون سياسات إدارته "نسخة مستحدثة من سياسات إدارة أوباما". وبينما يهتم الناخب الأمريكي على المستوى الداخلي بالتعيينات المتعلقة بوزارات الأمن الداخلي والخزانة والتجارة والنقل والطاقة، يهتم الخارج باختيارات وزراء الخارجية والدفاع والتجارة ومستشار الأمن القومي والمندوب الدائم لدى الأمم المتحدة. وقد دخلت الولايات المتحدة في فترة رئاسة ترامب مرحلة استقطاب غير مسبوقة. كما أضعفت سنوات حكم ترامب الأربع مبادئ "فصل السلطات"، و"استقلالية القضاء"، و"أهمية المؤسسات واستقلالها"، ومبدأ "الكفاءة قبل الولاء".
ويبدو أن اختيارات بايدن ترسل رسائل للداخل والخارج بأن الرجل يرغب في إيقاف الاستقطاب الحاد الذي مثّل فترة ترامب، حيث ركز على وزراء من الأقليات يمثّلون السود واليهود واللاتينيين وحتى المثليين، كما حازت النساء على نصيب كبير من اختياراته، ابتداءً من نائبته كمالا هاريس. وعلى المستوى الخارجي يمثل اختيار مسؤولين مثل جون كيري مبعوثاً لشؤون المناخ تطميناً للأوروبيين بشأن عودة سياسة أوباما السابقة المتعلقة بالاتفاق المناخي. كما نقلت عدد من المصادر المطلعة تأكيد اختيار بايدن للجنرال المتقاعد لويد أوستن وزيراً للدفاع. لكن ترشيح القائد السابق للقيادة الأمريكية الوسطى (سنتكوم)، الذي عمل في أفغانستان والعراق وقائداً للقوات الأمريكية التي قامت بغزو العراق، وأشرف على عملية سحب القوات الأمريكية من العراق، يمثّل أيضاً عودة للسياسة الأمريكية التقليدية تجاه منطقة الشرق الأوسط، حيث استمر التزام واشنطن بأمن حلفائها في المنطقة طوال فترة الحرب الباردة وما بعدها. وربما يكون مؤشراً على نهاية نهج الابتزاز الذي صاحب فترة ترامب المنصرمة.
اختيار بايدن لليهودي أنتوني بلينكين وزيراً للخارجية أيضاً قُصد منه ضرب عصفورين بحجر واحد، حيث يعتبر الرجل أحد المقربين من بايدن وعملا معاً لفترة طويلة. كما عمل بلينكين في إدارة رئيسين ديمقراطيين، بالإضافة إلى عمله كمساعد رئيسي في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ. وشغل أيضاً منصبي نائب مستشار الأمن القومي ونائب وزير الخارجية في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، عندما كان بايدن نائباً للرئيس. فبالإضافة لهذه الخبرة والتقارب الفكري يعتبر اختيار بلينكين اشارة تطمين لإسرائيل التي لا يستطيع رئيس أميركي تجاهل أهمية لوبياتها في واشنطن. فالوزير القادم يهودي وابن أحد الناجين من محرقة اليهود، ولديه انتماء لإسرائيل.
أنتوني بلينكين المولود في 1962 لأبوين يهوديين درس القانون في جامعة هارفارد وتخرج فيها، وعمل في مجال دراسته لفترة بعد تخرجه ثم انخرط في المجال السياسي. وتدرّج وفي عدد من المناصب السياسية. وقد تحدث في مقابلة سابقة مع صحيفة (تايمز أوف إسرائيل) عن التزام الإدارة القادمة بأمن إسرائيل. وقد أشارت الصحيفة الإسرائيلية إلى قول أنتوني بلينكن في وقت سابق خلال "أحد الأشياء التي شكلت حقاً دعمه لإسرائيل وأمنها طوال حياته المهنية هو الدرس المستفاد من الهولوكوست. وقد قضى بلينكين بعضاً من طفولته في باريس ويتحدث الفرنسية بطلاقة. ويعتبر انخراط الولايات المتحدة مع العالم – وخاصةً أوروبا – أمراً حيوياً.
الاختيار الآخر المهم هو اختياره لليندا توماس غرينفيلد كمندوبة دائمة في نيويورك هو إشارة لاهتمامه بالأقليات والنساء وقارة إفريقيا في وقت واحد. فهذه المسؤولة ذات الأصول الإفريقية عملت مساعدة لوزير الخارجية الأمريكي لشؤون إفريقيا في عهد الرئيس أوباما. كما يمثل اختيار بايدن لهذه الأمريكية السوداء لتكون مندوبة واشنطن في الأمم المتحدة – خبراً ساراً للقادة الأفارقة الذين تجاهلهم ترامب خلال فترته الرئاسية. كما سيُعيد بايدن توصيف منصب المندوب الدائم لدى الأمم المتحدة كحقيبة وزارية في حكومته. وعلى المستوى الدبلوماسي أيضاً يمثل اختيار وزير الخارجية الأسبق جون كيري كأول مبعوث لشؤون التغير المناخي في تاريخ أمريكا إشارة على عودة البلاد إلى اتفاق المناخ الذي ألغاه ترامب. وقد مثّل كيري بلاده في التوقيع على اتفاقية باريس للمناخ في عام 2015.
كذلك يبدو أن اختيار بايدن لوزير الأمن الداخلي اليخاندرو مايوركاس – والذي تعود أصوله إلى أمريكا الجنوبي – قُصد منه إرسال رسالة تطمين لمسؤولي دول أمريكا اللاتينية (واللاتينيين داخل الولايات المتحدة) الساخطين على سياسات ترامب المعادية للمهاجرين وتصريحاته المهينة. لكن الرجل عمل أيضاً مع بايدن من قبل، حيث شغل منصب رئيس جهاز خدمات المواطنة والهجرة خلال رئاسة أوباما، وقاد عملية تطبيق برامج مثل "العمل المؤجل للقادمين في مرحلة الطفولة"، وهو برنامج سمح لأطفال المهاجرين غير الشرعيين بالحصول على إقامة في البلد. وفي حال تأكيد ترشيحه، سيكون أول مهاجر من أصول أمريكية جنوبية يتولى هذا المنصب.
أيضاً عمل جيك ساليفان الذي تم اختياره في منصب مستشار الأمن القومي مستشاراً للأمن القومي خلال الفترة 2013 – 2014. كما شغل منصب نائب هيلاري كلينتون عندما كانت وزيرة الخارجية. ثم شغل فيما بعد منصب كبير مستشاريها للسياسة الخارجية خلال حملتها الرئاسية غير الناجحة في عام 2016. كما أن ترشيح بايدن لأفريل هاينز كأول امرأة تدير الاستخبارات الوطنية يمكن اعتباره أحد الخيارات المعتمدة على "الكيمياء المشتركة" والخبرة في العمل سوياً في السابق. حيث كانت هاينز أول امرأة تشغل منصب نائبة مدير وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) خلال الفترة 2013 – 2015. كما شغلت منصب نائب مستشار الأمن القومي بعد انتقال أنتوني بلينكن إلى وزارة الخارجية عام 2015. وفي حال تأكيد ترشيحها، ستكون أفريل هاينز السيدة الأولى التي تترأس مجتمع أجهزة الاستخبارات الأمريكية.
أيضاً اختار بايدن وجهاً نسائياً آخر عمل معه في إدارة أوباما في منصب وزير الخزانة، حيث رشّح جانيت يلين، التي كانت أول امرأة ترأس البنك المركزي الأمريكي، للمنصب. وكانت جانيت تولّت منصب رئيس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) في عهد باراك أوباما. وهي خبيرة اقتصادية ديمقراطية متمرسة تتمتع بخبرة كبيرة وتحظى باحترام العديد من الجمهوريين، وقادرة على التفاوض مع قادة الكونغرس الجديد على خطة واسعة لدعم الاقتصاد لمواجهة خطر عودة الولايات المتحدة إلى الركود الاقتصادي. كما اختار بايدن كاثرين تاي، المحامية المتخصصة في قضايا التجارة الحرة والصين، في منصب ممثل التجارة الأمريكي. وقد عملت هذه الأمريكية المنحدرة من أصول آسيوية والتي تتحدث اللغة الصينية خلال الفترة 2007 – 2014 في مكتب الممثل التجاري الأمريكي، حيث مثّلت الولايات المتحدة أمام منظمة التجارة العالمية فيما يتعلق بخلافاتها مع الصين. ويمثل اختيارها عودة الى سياسة أوباما تجاه الصين، وهي لا تختلف عن سياسة ترامب في الأهداف، وإنما في الوسائل.
جميع هذه الترشيحات إذن تشير إلى عودة أمريكية قوية لنشاطها السابق في شرق آسيا وأوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا، وهي تشير أيضاً إلى اختيارات موفّقة من جهة الخبرة السابقة والجمع بين الانتماء السياسي والكفاءة اللازمة لتولي المنصب، عكس ترشيحات ترامب التي تميل الى القرابة أو الولاء لشخصه أو المصالح الضيقة أو الاشتراك معه في صفات مثل العنصرية والسطحية.
ومثلما قام أوباما بترشيح أربعة جمهوريين خلال أعوامه الثمانية التي قضاها في البيت الأبيض، اثنان منهما في منصب وزير الدفاع، فإن هناك أنباء عن دراسة بايدن لفكرة تعيين سيدة الأعمال المعروفة "ميغ ويتمان" في منصب وزير التجارة. وبالرغم من انتمائها للحزب الجمهوري، فإن ويتمان تعتبر مرشحة بقوّة لتقلّد المنصب بما تملكه من خبرة كبيرة في مجال الأعمال والاقتصاد. وسياسياً سيكون اختيارها بادرة ودية تجاه الحزب الجمهوري وعضويته في مجلسي الشيوخ والنواب.